IMLebanon

العقد الصيني: قيادة العالم صعوداً وهبوطاً

China-Traders-Stock-Collapse

جهاد الترك
أفردت مجلة «تايم» الأميركية في عددها 31 آب 2015، تحقيقاً معمقاً ومطولاً عن الأسباب التي تضع الصين في مركز الصدارة الاقتصادية في العالم. أطلقت «تايم» على هذه الحقبة «العقد الصيني». الآتي تعريب لهذا التحقيق الذي أعده يان بريمر..

بدا ان الانفجار الذي تعرّض له أحد المصانع الكيميائية في مدينة تيانجين، شرقي الصين، يمكن أن يحدث في أي مكان آخر؛ غير أنه جسّد في حقيقة الأمر، صورة رمزيّة لما يفكر به كثيرون من الخارج، حيال هذا البلد: كأن تقدم قوى غامضة، يوماً ما، على إشعال حريق مفاجئ، مخلّفة أضراراً ضخمة لأسباب مبهمة.

استنفرت الأنباء الآتية من الصين، هذا الصيف، ذوي الأعصاب المشدودة؛ فقد انطلقت من مدينة شنغهاي البارزة، هزة خضت الأسواق العالمية في شهري حزيران وتموز 2015، نتيجة لانهيار أسعار الأسهم بلغ 30 بالمئة في أقلّ من شهر واحد. كان مردّ ذلك إلى تدخل حكومي مباشر وغير مباشرة. وسرت، في الوقت عينه، مؤشرات اقتصادية ضعيفة، مضافاً إليها تدهور في قيمة العملة الوطنية؛ الأمر الذي فاقم مخاوف من ان التباطؤ الاقتصادي في الصين، أخذ في الازدياد على نحو أسرع من المتوقع.

هذه إشارات تبعث على القلق في بلد تُترجم فيه الوظائف المتناقصة، تظاهرات في الشوارع، مسببة ريباً في اقتصاد بات، جوهرياً، من دعائم النمو والاستقرار العالميين. (38 بالمئة من النهوض العالمي، في العام الماضي، مصدره الصين؛ بينما استقرت النسبة على 23 بالمئة في العام 2010). ويدرك قادة البلاد، ان الانتقال بالاقتصاد الصيني من الاعتماد المكثّف على التصدير، إلى الاستهلاك المحلي الأوسع، أمر من شأنه ان يبطئ، بالضرورة، النمو. وتنطوي الخضات المالية، آنفة الذكر، على ضرب من التحديات قد تطرح علامات استفهام حول القدرات الاقتصادية طويلة الأمد في الصين.

ومع ذلك، فان الصين لا تشقّ طريقها نحو أزمات خطيرة في أيّ وقت في القريب العاجل: قادتها يمتلكون الأموال النقدية والأدوات السياسية غير المتوافرة لدى معظم البلدان النامية؛ هذه الأدوات ضرورية لإحلال الاستقرار في الأسواق وتحفيز الاقتصاد، ومن المؤكد ان بيجينغ ستستخدمها إذا ما دعت الحاجة الى ذلك. ولكن الصين تعاني من مشكلات ديموغرافية رئيسة، على المستوى الأفقي، وفي مجال المخاطر البيئية التي تسيء، يوماً بعد آخر، إلى اقتصادها المعولم، بينما يصعد نفوذها السياسي. في الواقع، نحن الآن في خضم ما يمكن تسميته «العقد الصيني»؛ وهي الفترة التي يدفع بالصين، تأثيرها العالمي الذي يتوسع بوتيرة متسارعة، نحو عتبة هامة، يتعذر تجاهلها قبل ان تتمكن منها، في نهاية المطاف، أزماتها طويلة الأمد.

دأبت الولايات المتحدة على تصدر الاقتصاد العالمي، منذ العام 1872، غير ان السؤال هو: متى ستتمكن الصين من ان تصبح الاقتصاد الأضخم في العالم، وليس ما إذا استطاعت، فعلاً، ان تحتل هذا الموقع. وفي حال، نجحت بيجينغ في التكيف مع نسب صرف العملة، وفقاً لإجراء يسمى مبدأ التكافؤ في القوة الشرائية، قفز دخلها الكلي ليصبح الأعلى في العالم (كما كانت عليه الحال في العام 2014). ونظراً إلى التباطؤ في الاقتصاد الأميركي وغرق أوروبا في الوحل، والتعثر في عدد من الاسواق الناهضة، فإن لا مناص من اعتماد الاقتصاد العالمي على الصين ليستمد منها زخماً إلى الأمام، على الأقل خلال السنوات القليلة المقبلة.

تباطؤ النمو

حتى ولو تباطأ نمو الصين إلى ما يقرب من 7 بالمئة، هذا العام، فانها وهي، المستهلك المهم للنفط والغاز والمعادن، ستفيد من الأسعار المتدنية للسلع. ان الأسعار العالمية للمواد الخام، تبلغ اليوم، نصف ما كانت عليه، العام الماضي؛ من أجل ذلك، فان تراجع الطلب على هذه المواد في الصين، سيلجم النمو في أوروبا. كما ان المرونة المعتمدة في عرض هذه المواد المستوردة من اميركا الشمالية، والانتاج المتزايد للنفط في العراق وايران، بالتزامن مع رفع العقوبات عن هذه الأخيرة، اسباب من شأنها ان تبقي على السعر المتدني للنفط، في السنوات القليلة المقبلة. يضاف إلى ذلك، ان الاحتياطي من العملات الأجنبية لدى الصين، يبلغ قرابة الأربعة تريليونات دولار اميركي، ما يعادل ضعفي ما تمتلكه اليابان، على هذا الصعيد، علماً ان طوكيو تُصنف ثانية في العالم، على مستوى المدّخرات. هذه الميّزة تضفي على بيجينغ قدرات فائقة للاستثمار في الخارج، ناهيك باستحداث شرنقة من الفرص للشركات المحلية، والوظائف للمواطنين، واكتساب النفوذ السياسي في العالم النامي.

ولكن المنافع الحقيقية، قصيرة الأمد، تكمن في الفاعلية المتزايدة للقيادة السياسية في الصين. منذ عامين، قام الرئيس زي جنبينغ بحملة واسعة النطاق لمكافحة الفساد، بغية استعادة الثقة بقيادة الحزب الشيوعي، وايضاً من أجل تحييد مناوئيه. وقد أدت هذه السياسة، الى قمع عشرات الآلاف في الحزب، وحكمت بالسجن على عدد من اكثر الأشخاص ثراء في الصين، بمن فيهم مسؤولون رسميون متنفذون. صحيح ان الرئيس زي، قد يكون الزعيم الصيني الأقوى منذ رحيل نظيره ماوتسي تونغ؛ غير ان اقباله على استخدام نفوذه، قد يسبب انقسامات خطيرة في صفوف القيادة، خصوصا إذا ما أقدمت البلاد على مرحلة من انعدام الاستقرار الاقتصادي. ومع ذلك، فان دوام التماسك الحزبي من الداخل، يبدو مجزياً للصين على الساحة الدولية. ففي الوقت الذي ينهمك الأميركيون في صوغ سياستهم الخارجية، والأوروبيون في معالجة التحديات التي باتت اقرب اليهم من ذي قبل، تستمر الصين في استخدام التجارة والاستثمارات الخارجية لتحقق، بالتدريح، أهدافها الوطنية. لنأخذ مثالاً على ذلك: في العام 1977، لم تستحوذ الصين على اكثر من 0،6 بالمئة من التجارة العالمية. أصبحت اليوم رائدة، في هذا المجال، بدليل ان اكثر من 120 بلداً تتبادل الأعمال التجارية مع بيجينغ، على نحو يفوق تبادلاتها مع الولايات المتحدة.

خلال العقد الصيني، سنشهد ايضاً، نمواً للمؤسسات متعددة الجنسيات بقيادة الصين، الأمر الذي يفسح في المجال أمام الحكومات الأجنبية للاستدانة، ولاقامة الطرق والجسور والبنى التحتية والمرافئ ومشروعات أخرى، من دون الاضطرار لاقتراض المال من المصادر الغربية التقليدية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والولايات المتحدة، والحكومات الأوروبية، التي تصرّ، في العادة، على إصلاحات سياسية واقتصادية مؤلمة قبل إبرام صفقات الدين.

والجدير بالملاحظة، ان بنك الصين للتنمية، والبنك الجديد للتنمية (مكون من: البرازيل، روسيا، الهند، وجنوب افريقيا، بقيادة الصين)، وبنك الاستثمار الآسيوي للبنى التحتية (يضم حلفاء أساسيين للولايات المتحدة، من بينهم بريطانيا والمانيا)، تشكل عوامل تدعم هذه الاستراتيجيا. ومن المؤمل ان تساهم هذه المؤسسات في مساعدة الصين على تعزيز روابطها التجارية مع اوروبا؛ والمشاركة في توفير السيولة النقدية للدول النامية. وهذا سيؤدي بالصين الى اعادة صوغ قوانين الاستثمارات الدولية المباشرة لمصلحتها.

ولدى الصين، ايضاً، بيئة جيوسياسية مناسبة، على المدى القصير. فبينما ستواجه الصين، في المستقبل، منافسة سياسية اقتصادية اشرس من الهند، فان البرامج الاصلاحية التي اقترحها رئيس وزراء الهند، نارندرا مودي، قد بدأت لتوها، علما ان اقتصاد الهند لا يشكل في الحجم، اكثر من ثلث الاقتصاد الصيني. ويحتاج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ظلّ عزلته المتفاقمة، الى استبدال زبائنه الاوروبيين في مجال الطاقة، بآخرين آسيويين؛ وهذا ما يضع الكرملين في جيب بيجينغ.

أسواق البورصة

ومع ذلك، فان ثمة سقفاً للصعود الصيني؛ فأسواق البورصة التي شهدت تذبذباً هذا الصيف، ترسل إشارات تحذيريّة بأن انفتاح الاقتصاد الذي تهيمن عليه الدولة في الصين، على تجاذبات الأسواق العالمية، لا يدعو إلى الطمأنينة لدى قادة النظام. ولا ضمان، حتى اليوم، بأن أصحاب الأسهم في الصين، بمقدورهم ان يتجاوزوا ضغوطاً من هذا النوع، أو ما إذا كان قادة البلاد، الذين ينفرون من مخاطر كهذه، سيلتزمون هذا المسار. والأمر عينه ينطبق على انفتاح سوق العملات على ضغوط يصعب توقعها في مجال العرض والطلب. ثمة، في هذا الاطار، مجازفة مردّها إلى الأوضاع المنقلبة التي قد تسبّب موجات صادمة لن يتمكن النظام السياسي الصارم من امتصاصها. صحيح ان قادة الصين بامكانهم التدخل للحؤول دون حدوث أزمة، على المدى القصير، أسوة بما حصل هذا الصيف؛ غير أن اللجوء إلى إجراءات الطوارئ، قد يتحوّل، بالضرورة، أقل فاعلية بمرور الوقت.

ثمة مشكلة أخطر: الصينيون يشيخون بسرعة. لعل السياسة التي تقرّها الدولة (إنجاب طفل واحد)، فاعلة، على هذا الصعيد. في العام 1980، كان متوسط الأعمار في الصين 22,1 عاماً، ما عنى، وقتئذ، توافر مئات ملايين الشبان لتحفيز «الانفجار» الاقتصادي. في العام 2013، ارتفع هذا المعدل إلى 35,4 عاماً. وتشير دراسة أعدتها الأمم المتحدة إلى أنه بحلول العام 2050، سيبلغ هذا المعدل 46,3 عاماً. وهذا يدل على أن نسبة أقل من سكان الصين، ستشارك في قوة العمل، إضافة إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة من يعتاشون على إعانات التقاعد؛ وهذا من شأنه أن يقتطع من القدرة التنافسية للاقتصاد بتعاقب الزمن. في الولايات المتحدة، المنافس العالمي للصين، تبدو المؤشرات الديموغرافية أقوى، كذلك في الهند، وهي السوق الناهضة التي تتقدم مثيلاتها في منافسة الصين. أما الدول المتطورة، مثل اليابان وألمانيا، فإنها ما فتئت تتصدى لأزمة الفئات المسنّة، غير أن هاتين الدولتين ثريتان في الأساس. وقد تتحول الصين مجتمعاً مسناً، بينما لا يزال فقيراً على مستوى الدخل الفردي.

كذلك، لا ينبغي أن نقلل من المخاطر الاقتصادية والسياسية لتلوّث البيئة في الصين. يحذّر تقرير صادر من بنك التنمية الآسيوي في العام 2012، من أن أقل من واحد بالمئة من المدن الخمسمئة الكبرى في الصين، تستوفي معايير جودة الهواء، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. ويقرّ المسؤولون في الصين بأن ثلث المسطحات المائية و60 في المئة من مياهها الجوفية، لا تصلح للاستخدام البشري. ولم تثمر الجهود المبذولة في معالجة التلوث، نتائج ملموسة؛ ويذكرنا الانفجار الذي حصل في تيانجين بأن الإجراءات المطبقة، على هذا الصعيد، لا تزال دون المستوى المطلوب. ومن المتوقع أن تغدو مشكلات كهذه عصية على الإخفاء. في السنوات الماضية، عزّزت بيجينغ الرقابة على الإنترنت؛ ولكن بوجود 650 مليون مستخدم، من بينهم 550 مليوناً يتلقون هذه الخدمة على هواتفهم الخلوية، فإن القادة يدركون أنه ينبغي عليهم أن يتعقبوا الرأي العام، على نحو أوثق في السنوات المقبلة. ثمة تجاذب داخل القيادة بين الإصلاحيين الذين يدعون إلى تدفق حر للمعلومات، وهذا أمر ضروري للتطور الاقتصادي؛ بينما يدعو المتشددون إلى وجوب إبقاء الاتصالات تحت المراقبة الصارمة للدولة. في الوقت الراهن، لا يزال المتشددون يحظون باليد الطولى، في هذا المجال؛ ويبدو ذلك ملائماً للاستقرار في المدى القصير. لعل ذلك يتغيّر في المدى الطويل.

وفي غضون تحوّل الديموغرافيا، في الصين، مجتمعاً مسنّاً، وتقلّص القوة العاملة، فإن من المتوقع أن تسفر المداخيل الأعلى التي يسعى العمّال في الصين إلى المطالبة بها، عن تقويض الكثير من المنافع المتأتية من أسعار السلع المتدنية؛ وهذه من الميزات التي تبزّ بها الصين، الولايات المتحدة. ومن المرجح كذلك أن تواجه الصين منافسة أشد، على النفوذ والموارد، من الهند، في الاعوام المرتقبة. والأغلب أن حاجة الصين إلى تأمين حصولها على إمدادات طويلة الأمد، من النفط والغاز والمعادن، والعثور على أسواق جديدة لتصريف إنتاجها المتزايد، أمور ستوقع الحكومة الصينية في مطب نزاعات السياسة الخارجية؛ علماً أنه ليس لدى بيجينغ خبرة عريقة في معالجة ملفات معقدة كتلك في الشرق الأوسط وإفريقيا، بشكل خاص.

الفقراء والأغنياء

والأهم، في هذا السياق، أن لا شيء يؤكد أن ما يحدو بالرئيس زي إلى تحقيق إصلاحاته الاقتصادية، سيتكلّل بالنجاح. ينبغي أن تقدم بيجينغ على إعادة هيكلة اقتصادها ذي المنحى التصديري لضمان أن المستهلكين في الصين قادرون على ابتياع المزيد من السلع المصنعة في بلدهم. يتوجب عليها، والحال هذه، ابتكار وتعزيز نمط من الثقافة المتجددة التي كانت مكّنت منافسين آسيويين، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، من الحفاظ على وتيرة النمو. كما يتوجّب عليها تقليص الفجوة الخطيرة، التي تزداد اتساعاً بين الفقراء والأغنياء، وأن تتيقن من أن الحكومة الفضلى هي تلك التي بمقدورها التمدد نحو مواقع الفساد، على المستوى المحلي. وإذا عجزت عن تحقيق ذلك، فإن ثمة مخاطر حقيقية من تفاقم القلق الاجتماعي على نحو يخلخل النظام بأكمله. عندئذ، قد يثبت أن التفوق الصيني قصير الأمد.

في المدى المنظور، سينمو الاقتصاد الصيني، باسطاً تأثيره، متحدياً النظام الدولي القائم. هذا ما نشهد في الوقت الراهن. يبدو أن المسؤولين الأميركيين ينسون أن الصين قد بلغت شأوا بعيداً من الضخامة والنفوذ لتحسب لواشنطن حساباً أو تأخذها على محمل الجدّ، عندما تعمد هذه الأخيرة إلى تقبّل السياسات الداخلية للصين، أو انتقادها. أظهرت بيجينغ قابلية على إقامة تحالفات جديدة لتتحدى، من خلالها، الهيمنة المطلقة لمؤسسات يقودها الغرب، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. حتى بريطانيا أقرّت بحتمية صعود الصين وقيمتها المفترضة؛ بدليل أنها تقدم اليوم على المساهمة في عدد من مشروعاتها.

لا مناص من استمرار التنافس بين الصين والولايات المتحدة. الرؤساء الأميركيون المقبلون سيحظون بقدرة محدودة على تغيير الصين أو الحد من سلوك زعمائها في الخارج. غير أن المقاربة التي تعتمدها واشنطن، على هذا الصعيد، قد تساعد في تحديد ما إذا كان «العقد الصيني» فترة يسودها التنافس السليم، أو أنها تنطوي على خطر محدق. ولكن بالقدر الذي تبدو فيه الصين قوية ومحفوفة بالخطر، فإنها قد تتحوّل تهديداً بالغاً إذا ما أصبحت ضعيفة وغير مستقرة. مردّ ذلك إلى أن الهشاشة قد تحيل بيجينغ أكثر غرابة، لأنها قد تسبّب خللاً في الاستقرار، في قلب الاقتصاد المعولم. العقد الصيني سيشكل تحدياً. صين غير مستقرة، قد تؤدي إلى الكارثة.