كتبت صحيفة “الأنباء” الكويتية:
تميز المهرجان السنوي لحركة «أمل» (في الذكرى السنوية لتغييب الإمام موسى الصدر) في الشكل بأمرين لافتين: الأول هو الحشد الشعبي الذي أظهر أن الحركة مازالت تمتلك قدرات شعبية.
هذا عرض قوة شعبي وإثبات وجود لتكريس «الثنائية الشيعية» سياسيا وعلى الأرض، وطبعا مع فارق الأحجام والقدرات.
كما أن «حشد أمل» في اللحظة السياسية الراهنة جاء موازيا للحشد الشعبي الاحتجاجي ضد الفساد والطبقة السياسية الحاكمة، وأظهر أن حركة «أمل» التي تنتمي إلى هذه الطبقة لديها قاعدتها الشعبية الثابتة التي لا ينال منها شارع متحرك.
والأمر الثاني هو الإجراءات الأمنية المشددة وغير المسبوقة التي اتخذت لحماية المهرجان من أي اختراق أمني وعمل إرهابي.
والأسباب الأمنية هي التي فرضت العام الماضي إلغاء المهرجان.
في المضمون، كان الخطاب السياسي الشامل وإطلاق مبادرة إنقاذية والدعوة إلى استئناف الحوار على أساس جدول أعمال جديد حصره رئيس مجلس النواب نبيه بري في 7 نقاط وبنود هي: رئاسة الجمهورية، وعمل مجلس النواب، وعمل الحكومة، وقانون الانتخابات، واستعادة الجنسية، واللامركزية الإدارية، ودعم الجيش.
وهذه المبادرة، التي لاقت دعما فوريا وحماسيا من الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط وتأييدا وتشجيعا من حزب الله، فيما تريثت القيادات المسيحية في تحديد موقفها، تعني سياسيا:
1 ـ نقل طاولة الحوار مجددا من قصر بعبدا إلى مجلس النواب لتعود إلى حيث انطلقت في العام 2006 عندما بادر الرئيس بري وفي ذروة أزمة سياسية حكومية بعد استقالة الوزراء الشيعة إلى الدعوة إلى حوار وطني اتخذ جملة مقررات لم تنفذ فيما أطاحت حرب تموز بهذا الحوار.
2 ـ محاولة نقل الأزمة مجددا من الشارع إلى طاولة الحوار بعدما بدأت تأخذ عبر التحركات الاحتجاجية منحى مقلقا يهدد بخروج الوضع الشعبي عن السيطرة السياسية.
وتبدو مبادرة بري وكأن من أهدافها المباشرة استيعاب الشارع و«تنفيسه» وإجهاض تحركه.
3 ـ العودة إلى الحوار الوطني تعني الإقرار ضمنا بأن الحوارات الثنائية، وتحديدا حوار المستقبل وحزب الله، لم تعد كافية ولم يعد بمقدورها لوحدها استيعاب الأزمة وتصريفها، مثلما لم يعد ممكنا الاستمرار في تجاهل المكون المسيحي على صعيد الأزمات والحلول.
ولذلك كان لافتا أن بري أدرج على جدول أعمال الحوار 3 بنود أساسية تصنف على رأس لائحة المطالب المسيحية في هذه المرحلة: قانون الانتخابات، استعادة الجنسية واللامركزية الإدارية.
4 ـ إطلاق عملية الحوار يعني تجميد عمل الحكومة وربط مسارها ومصيرها بنتائج الحوار، وهذا يعني أن الحكومة دخلت «إجازة مفتوحة»، وأن الأزمة ليست أزمة حكومية وإنما أزمة سياسية والخروج منها لم يعد متاحا إلا عبر تسوية سياسية شاملة.
5 ـ مبادرة بري تعيد الاعتبار إلى مسألة رئاسة الجمهورية التي حلت في المرتبة الأولى على لائحة ترتيب الأولويات، وتصب بالتالي في توظيف سياسي للحراك الشعبي وضغوط الشارع والرأي العام في اتجاه محدد هو التعجيل في انتخاب رئيس للجمهورية والانتقال إلى مرحلة الرئيس التوافقي طالما أنه سيكون موضع حوار واتفاق بين مختلف الفرقاء، بعدما تأكد أن أي فريق ليس قادرا على فرض أو إيصال مرشحه ورئيسه.
6 ـ حوار وطني بدعوة من الرئيس نبيه بري ورعايته وإشرافه يعني أن بري قرر إدخال تعديلات على تكتيكه ودوره والانتقال من موضع الطرف إلى موقع الوسيط.
من الواضح أن بري ذهب في معركته ضد العماد ميشال عون إلى مدى لم يبلغه في السابق وأراد النيل منه ولم يتقيد بموقف حزب الله الداعم له وإنما أبدى تبرما وضيقا من هذا الموقف، وتجاوز الهامش المعطى له إلى حد بات المساهم الأول في التضييق على عون ومحاصرته وإضعافه.
لقد كان بري الدافع والمشجع الأول للرئيس تمام سلام للذهاب إلى حدود المواجهة المفتوحة مع عون، وكان المتحرك الأقوى على صعيد قطع طريق بعبدا على عون وتهيئة ظروف الرئيس التوافقي توصلا لإقناع حزب الله بالدخول في حوار حول هذا الرئيس بعد التأكد من انهيار فرص عون وانتهائه كمرشح وكمشروع رئيس، وحتى كناخب أساسي و«عقبة».
وجد بري أن هذا وقت تصفية حسابه المتراكم مع عون.
فالأمر لا يتعلق بموقف عون من شرعية مجلس النواب وعرقلته «تشريع الضرورة»، وإنما يمتد إلى ملفات ومشاكل كبيرة والخلاف الفعلي انطلق من جزين عندما قرر عون كسر بري ونفوذه التقليدي في هذه المنطقة وإسقاط النائب المحسوب عليه سمير عازار.
وربما يكون بري مثل الحريري وجنبلاط مراهنا على أن حزب الله بحكم قتاله وانهماكه في سورية وحاجته الى الحكومة سيغض النظر عن عملية إضعاف عون وإخراجه من السباق الرئاسي، وسيتعاطى مع الموضوع على أنه لعبة سياسية محلية لا تقدم ولا تؤخر في استراتيجيته ومصالحه الكبرى.
ولكن في اللحظة التي تيقن فيها حزب الله أن حليفه عون مهدد فعلا بالانكسار والخسارة خرج الحزب من الدعم الكلامي والسياسي الى الدعم العملي عبر خطوتين متلازمتين: الرسالة السياسية الشديدة اللهجة التي حملها المسؤول البارز الذي يكلف بالمهمات والرسائل الخاصة وفيق صفا الى كل من بري وسلام وجنبلاط.
ومقاطعة وزيري حزب الله لجلسات الحكومة تضامنا مع عون، وفي مؤشر واضح الى أن حزب الله عندما وصل الى نقطة الخيار بين الحكومة وعون اختار حليفه المسيحي، وأن تحالفه مع عون هو تحالف استراتيجي طالما لا بديل عنه، مقنع وموثوق، على المستويين المسيحي والوطني.
موقف حزب الله فعل فعله عند بري وجنبلاط.
فالزعيم الدرزي انعطف نحو الرابية وأعاد الحرارة الى خط العلاقة والتواصل مع عون وأطلق إشارات التودد والرغبة في إيجاد حلول.
والرئيس بري طلب من سلام التريث وعدم الدعوة الى جلسات جديدة للحكومة الى حين معالجة الوضع وعودة وزراء عون وحزب الله الى طاولة مجلس الوزراء.
وفي هذا الإطار، إطار معالجة الأزمة وسلوك طريق جديدة في التعامل مع عون والانتقال من المواجهة الى المفاوضة، جاءت دعوة بري الى استئناف الحوار الوطني.
والأنظار تتجه الآن الى عون وكيف سيتعاطى مع هذه الدعوة، وهل يراها «صادقة» أم دعوة مفخخة بألغام كبيرة أولها اللغم الرئاسي الذي إذا انفجر، سينفجر به أولا؟!