حيدر الحسيني
عندما انهارت، أو أوشكت أن تنهار أسواق المال العالمية، قبل أيام، اتجهت كل العيون إلى الصين وسياستها النقدية، حيث بدا أن اللوم موجّه أساساً إلى بكين. لكن الأخيرة التي انشغلت في صدّ تدهور جارف للعديد من مؤشراتها الاقتصادية والمالية، لها رأي آخر، وقد حمّلت الولايات المتحدة، قاطرة النمو العالمي، مسؤولية أزمة الأسواق الناشئة وفي طليعتها الصين، من خلال تلويح واشنطن برفع أسعار الفائدة قريباً، ربما اعتباراً من الشهر المقبل.
كان لافتاً الأسبوع الفائت الموقف الصيني الذي عبّر عنه رئيس معهد البحوث المالية والمصرفية في بنك الشعب الصيني (المركزي)، ياو يودونغ، بقوله إن القلق من زيادة متوقعة لأسعار الفائدة الأميركية ربما كان السبب في اضطراب أسواق الأسهم العالمية، وليس خفض الصين المفاجئ لقيمة عملتها اليوان نحو 2 في المئة في 11 آب الجاري، داعياً مجلس الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأميركي) إلى تأجيل زيادة الفائدة لإعطاء اقتصادات الأسواق الناشئة فسحة من الوقت للاستعداد لهكذا قرار.
وتعكس تصريحات المسؤول البارز في المركزي الصيني اعتقاد سلطات بلاده بأن قرار بكين السماح بهبوط قيمة اليوان أمام الدولار هو تدبير إصلاحي ضروري لا علاقة له باهتزاز البورصات العالمية، وهي أزمة تعتقد الصين أنها ترجع أساساً إلى نية الولايات المتحدة المعلنة لزيادة سعر الفائدة، في خطوة محتملة من شأنها أن تفاقم مشكلة السيولة في الأسواق الناشئة التي تشهد موجات انسحاب مرشحة للتزايد لأموال هائلة باتجاه السوق الأميركية بهدف الاستفادة من الفائدة المرتفعة لاحقاً.
مختصر وجهة النظر الصينية أنها تقوم على ضرورة ألا ينطلق المركزي الأميركي في سياساته من زاوية مصلحة الاقتصاد الأميركية وحدها، بحيث من الأهمية بمكان أن تراعي الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد عالمي مصالح الدول الاُخرى، في وقت يتسم به الاقتصاد العالمي بالهشاشة والضعف.
الموقف الأميركي
لم يتأخر ردّ الولايات المتحدة، التي يعترف العديد من صانعي قرار مصرفها المركزي بأن رفع الفائدة سوف يسبب مشكلة لدول كثيرة، لكنهم يجادلون بأن مصلحة وطنهم هي العليا باعتبار أنهم ليسوا خَدَماً للاقتصاد العالمي، وفي طليعة هؤلاء رئيس مجلس الاحتياطي في نيويورك وليام دادلي، الحليف المقرّب من رئيسة مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي جانيت يلين، والذي يعتبر أن اضطراب الأسواق «ليس مشكلة أميركية».
لكن موقفاً أقل تشدّداً في السياسة النقدية أنهت به الولايات المتحدة الأسبوع يوم الجمعة الماضي، وجاء على لسان نائب يلين، ستانلي فيشر، بتأكيده أن المصرف المركزي لم يتخذ بعد قراره بشأن موعد رفع نسبة الفائدة، معترفاً بأن عدم استقرار الأسواق وتباطؤ الاقتصاد الصيني يؤثران في الجدول الزمني للقرار، الذي ستؤثر فيه أيضاً المتغيرات المالية والاقتصادية المستجدة قبل اجتماع اللجنة النقدية للاحتياطي الاتحادي في 16 أيلول المقبل على مدى يومين.
وفي ضوء المعطيات الأفضل عملياً لأداء الاقتصاد الأميركي، وإعلان وزارة التجارة أنه سجل نمواً في الفصل الثاني من العام الجاري فاق بكثير التقديرات الأولية ليبلغ 3,7 في المئة، تتجه الولايات المتحدة إلى رفع سعر الفائدة الأساسي القابع قرابة الصفر منذ 10 سنوات تقريباً، وهو توجّه سبق وأكّدت عليه يلين، التي ترى من من المناسب رفع سعر الفائدة يوماً ما هذه السنة، في سبيل المباشرة بما سمّته «تطبيع السياسة النقدية».
سباق نحو.. السيولة
الرفع التدريجي المحتمل لسعر الفائدة الأميركية لن يكون إيجابياً بالمطلق بالنسبة للولايات المتحدة، ولا سيئاً بالمطلق في الدول الناشئة. لكن البلدين هما صابحا أكبر اقتصادين في العالم الآن، وتبدو الأسس الاقتصادية متينة وتوقعات النمو في مرتبة عالية عند كليهما، في حين أن الخاسر الأكبر ستكون الأسواق الناشئة الاخرى، كالبرازيل، سابع اقتصاد في العالم، والتي دخل اقتصادها مرحلة انكماش «تقني» بتراجع ناتجها المحلي المجمل 1,9 في المئة في الفصل الثاني من هذا العام.
غير أن دائرة المنافسة تتسع من كونها أكبر عملاقين في العالم، أميركا والصين، لتشمل نطاقاً أرحب ينطوي على تنافس بين الأسواق الناشئة والمتقدمة، باعتبار أن الخطوة الأميركية من شأنها أن تقوّض جاذبية الأسواق الناشئة التي استفادت من انفجار الأزمة المالية العالمية سنة 2008 وجذبت رؤوس أموال بنحو تريليوني دولار بين عام 2009 وحزيران 2014، لتفقد على مدى 13 شهراً مضت تريليون دولار تقريباً.
بعدما تبيّن أن الاقتصاد الريعي الحاكم في البورصات العالمية هو في العديد من أدواته الاستثمارية مولّداً للفقّاعات المدمّرة، كما حصل في عقارات الولايات المتحدة قبل 7 أعوام، باتت الحاجة أكثر إلحاحاً للسيولة النقدية أكثر من الأوراق المالية الوهميةِ القيمة (كالمشتقات الخطرة)، وهذا ما يُنبئ بمزيد من التنافس الحاد على السيولة (الكاش) التي باتت «نادرة».
وهذا ما يبدو جلياً من بيانات «ميريل لينش ـ بنك أوف اميريكا» التي خلصت إلى أن صناديق الأسهم في الأسواق الناشئة خسرت 48,4 مليار دولار من سيولتها منذ بداية العام الجاري، بينما اجتذبت نظيرتها في الأسواق المتقدمة 48,9 مليار دولار، ما يعني أن موجة هجرة الأموال العكسية بدأت بقوة باتجاه الغرب، وهو ما يتطلب خطوات كبيرة من صانعي القرار في الأسواق الناشئة كي تستعيد جاذبيتها الاستثمارية وتستقطب الرساميل المطلوبة لتحصين موقعها المالي والاقتصادي في زمن الأزمات الاقتصادية الكبرى.