كتبت كلير شكر في صحيفة “السفير”:
لا يختار الرئيس نبيه بري توقيت حدفاته عن عبث. في معظم الأحيان، لها حساباتها التي يتداخل فيها المحلي بالإقليمي، فيرتبها مع بعضها لتجاري سفنُهُ حركةَ الريح كي يقطف ثمار جهوده تصفيقاً من مريديه. لا يضمن النتائج مسبقاً، لكنه يعرف متى يؤكل كتف التوافق الداخلي، ليقرّشه مبادرات قابلة للحياة حتى لو لم تتوّج في خانة الانجازات الكبيرة. وفي بعض الأحيان تكفيه الصورة..
لهذا يحتفظ الرجل دوماً في جيبه بـ«شعرة معاوية»، لا بل بخصلة شعر، كي يخرجها في اللحظات الحرجة لتوصله الى من هم خصوم مفترضون يقفون في الخندق المقابل للجبهة السياسية.. أو يعيد من خلالها تصويب بعض الشطحات.
بالأمس أطل «الأستاذ» من على منبر ذكرى تغييب الامام موسى الصدر ليبشّر اللبنانيين بقرب انعقاد طاولة حوار جديدة تجمع القوى المختلفة على كل شيء، الا على رغبتها في البقاء على كراسي السلطة حتى لو «طلعت ريحتها».
وهي تدرك تمام الادراك أنّها مجبرة لا مخيرة في العض على جروح خلافاتها والجلوس سوياً على طاولة واحدة للبحث عن صياغات توافقية، ولو موضعية، تساعدها على حماية «الهيكل» قبل أن يسقط على رؤوسها.
ولهذ ليس مستغرباً أن يغلّب رئيس المجلس المنطق الحواري على قاعدة «وجها لوجه» على منطق السجال المنبري الذي لجأ اليه خلال الفترة الأخيرة، لا سيما بينه وبين «حليف الحليف» الجنرال ميشال عون، على خلفية الموقف من شرعية مجلس النواب، واستطراداً تأكيده الامتناع عن انتخاب الجنرال رئيساً للجمهورية.
في لحظة معينة بدا وكأنّ بري قرر الخروج من «ثوب التحالف» الذي يجمعه بالعماد عون ليصير أقرب الى طروحات الخصوم، وتحديداً «تيار المستقبل»، بعد المزايدة عليهم في الدفاع عن مسار الحكومة ومصيرها بحجة أنها آخر المؤسسات الدستورية العاملة، حين قرر البرتقاليون الانتفاض عليها.
هذا المشهد دفع «حزب الله» الى التدخل المباشر من خلال رسم خطين أحمرين متوازيين، لا يتخطى أحدهما الآخر: لا لاستقالة الحكومة، ولا لكسر ميشال عون. ولا بدّ بالتالي من اللعب تحت هذ السقف، أو الدمج بين الهامشَين المتاحَين.
هكذا، صارت الحاجة الى مخرج لائق على قاعدة «لا يفنى ديب الحكومة ولا يموت غنم المطالب العونية»، ملحة، وهي تبدأ باقتراح قانوني تبقي على العميد شامل روكز في الخدمة، ولا تنتهي بقانون انتخابي يحقق الشراكة الانتخابية، والا فانتخابات رئاسية تجري من الشعب مباشرة.
تحرك الرئيس بري بالتكافل والتضامن مع صديقه وليد جنبلاط لـ «تطريز» مبادرة من شأنها أن تحمي الهيكل، على أساس تثبيت أرجل الحكومة على أرضية متينة، بعدما علّقتها مقاطعة وزراء «تكتل التغيير والاصلاح» و «حزب الله» بين الفضاء والأرض، واعادة تفعيل عمل مجلس النواب الغارق في سباته، وحلّ اشكالية تسريح روكز… وفي حال توفر بعض الترف التوافقي يمكن حينها فتح دفتر الرئاسة الذي تآكله الغبار.
وحين راح الرجلان يجسان نبض بقية القوى السياسية، بدا أن هناك استعداداً للجلوس الى طاولة الحوار يكون هدفها الأول ارساء بعض الهدوء والبحث عن مسكنات موضعية تخفف من ألم التمزقات الحاصلة، وقد لا تصل بالضرورة الى القضايا الشائكة كالرئاسة أو الانتخابات النيابية… بانتظار حصول الانفراج الاقليمي ونضوج التوافقات الكبيرة.
ولما بدا أنّ ثمة رغبة أولية من جانب كل الأطراف في مجاراة الرئيس بري في طرحه، وتحديداً من «تكتل التغيير والاصلاح» اطلق «دولة الرئيس» مبادرته الى العلن مرفقة بجدول أعمال موسع، ولكن من دون أي ترتيب مسبق للقضايا المطروحة.
ولهذا يقول بعض المطلعين على موقف العماد عون إنّ هناك تأييداً مبدئياً للمشاركة في طاولة الحوار، وان كانت لـ«التكتل» وجهة نظره من الخريطة المطروحة، بما يعني أنه لا يزال متمسكاً بالترتيب الذي طرحه خلال مؤتمره الصحافي والذي استبق به اعلان المبادرة: الأولوية هي لوضع قانون انتخابي تجري على أساسه الانتخابات النيابية، والا انتخابات رئاسية من الشعب، على أن تأتي من بعدهما رزمة الاصلاحات.
وبالتالي إنّ الملاحظة على الشكل لن تمنع الجنرال من الجلوس بوجه حلفائه وخصومه على طاولة مستديرة تثير كل القضايا الخلافية، رغم التسريبات التي تستبق التحضيرات الرسمية وتشي بأنّ الطاولة المنتظرة ستكون نسخة عن مشاهد الحوار السابق الذي كان يعقد في بعبدا بضيافة الرئيس ميشال سليمان، مع أنّ رئيس المجلس كان واضحاً وصريحاً بتأكيده أنّ الحلقة ستضمّ رؤساء الكتل فقط.
الا أنّ هذا المسار الطارئ على المشهد السياسي الذي كان يغلي، والباحث عن بعض العلاجات، لن يمنع «التيار الوطني الحر» من الاحتفاظ بورقة الشارع التي يستعد لاستخدامها من جديد يوم الجمعة المقبل.
وفق المطلعين، فإنّ المسألتين لا تتضاربان في المضمون؛ الحوار شيء، والتحرك على أرض الميدان شيء آخر. فهو ليس ضدّ المبادرة ولا يستهدفها، لا بل يحاكي نبض الشارع الذي استبق الطبقة السياسية بالاعتراف بأنّ الوضع الى تحلل تام ولا يحتمل العلاجات الموضعية، ولا بدّ بالتالي من وضع الإصبع على الجرح، لتكون البداية من صناديق الاقتراع النيابية على أساس قانون عادل.
هكذا، أعاد العونيون ترتيب برنامجهم الاعتراضي في الشارع. الكلام عن آلية حكومية أو حتى حقوق مغتصبة صار تفصيلاً بسيطاً بالنسبة للجماهير الغاضبة على كل الطبقة السياسية. وصارت العودة الى الجذور ضرورية: القانون الانتخابي. ويوم الجمعة المقبل سيبدأ العونيون مسيرة «الاقتراع بالأقدام» لتغيير القانون.