إلين مور، ورومان أوليرتشيك، ونيل بَكلي
في الوقت الذي كانت فيه القوات الروسية تحاصر القواعد العسكرية في شبه جزيرة القرم في أوكرانيا العام الماضي، اتخذ مايكل هاسينستاب قرارا صعبا.
هاسينستاب المشهور بالرهانات المحفوفة بالمخاطر – والمربحة – على السندات الحكومية، راقب الأحداث في جزيرة القرم، التي دفعت بأسعار السندات الأوكرانية إلى الأدنى. وبوصفه مدير صندوق في شركة فرانكلين تمبلتون، اشترى من سندات أوكرانيا أكثر من أي شخص آخر. الآن، ولإحساسه بأن ذعر الأسواق هو رد فعل مبالغ فيه، اشترى مزيدا. وقرر أن الأزمة في أوكرانيا لن تتصاعد.
هذه المرة كان على خطأ. أكثر من سنة من العنف بين القوات الأوكرانية والانفصاليين الذين تدعمهم روسيا، أودى بحياة قرابة سبعة آلاف شخص، وأجزاء كبيرة من المناطق الصناعية الرئيسية أوكرانيا تضررت من الحرب، والبلد يقع الآن في قبضة الركود. وفي الوقت الذي كانت فيه أوكرانيا تترنح على حافة الوصول إلى مرحلة الإعسار هذا العام، طلب من هاسينستاب وبقية دائني أوكرانيا شطب جزء من ديونها الوطنية. الأسبوع الماضي، بعد أشهر من المفاوضات التي سادتها الخلافات في الرأي، اتفقوا. وبشطب فوري لـ 20 في المائة من السندات البالغة قيمتها 18 مليار دولار، اتفق الدائنون، أمثال هاسينستاب، على تحمُّل خسارة شددوا على أنها كانت ضرورية – وهو قرار ينبغي لهم تفسيره للمستثمرين. في البداية، رحب المسؤولون في كييف وهللوا لهذه الصفقة، رغم أنها لم تصل إلى مرتبة شطب الديون الذي كانوا قد سعوا إليه أولا الذي دعمه كثيرون، بمن فيهم الممول الملياردير جورج سوروز.
لكن هذا الابتهاج تحول بسرعة إلى ذعر عندما تساءل النقاد عما إذا كانت الصفقة التي يدعمها صندوق النقد الدولي ستبقي أوكرانيا في وضع المعاناة من أجل تعزيز اقتصادها قبل أن تبدأ في الوفاء بالتزاماتها مرة أخرى. ولأن أوكرانيا خططت فقط لإعادة هيكلة جزء بسيط من ديونها البالغة قيمتها 72 مليار دولار، هناك شكوك متصاعدة في أنها ستكون مضطرة إلى إعادة التفاوض بشأن شروط الصفقة في وقت لاحق. وبعضهم يغلب على ظنه أن حاملي السندات حصلوا على صفقة أفضل مما يصرِّحون به، خاصة مع إدراج “عامل تحلية” للمستثمرين.
يقول فاديم خارموف، المحلل الاقتصادي لمنطقة أوكرانيا لدى بانك أوف أمريكا ميريل لينتش “إن الصفقة إيجابية بالنسبة لحاملي السندات. الصفقة سخية بما يكفي لإحداث اندفاع صعودي قصير الأجل في الوقت الذي يتم فيه إثارة قضايا الاستدامة طويلة الأجل”.
في المحافل العامة، أشادت كل من الحكومة الموالية للغرب في كييف وصندوق النقد الدولي بالاتفاقية على أنها فتح مهم. بالنسبة إلى الأوكرانيين قدمت لهم فرصة لوضع مسألة الديون وراءهم والتركيز على إعادة بناء الاقتصاد. وبالنسبة إلى صندوق النقد الدولي، تم إبرام صفقة أوكرانيا كأنموذج لإعادة الهيكلة – وقدمت فرصة لتحويل النقاش بعيدا عن مسألة إعادة التفاوض على الديون اليونانية المحفوفة بالمخاطر.
تقول كريستين لاجارد، العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي، “إن الاتفاقية ستساعد على استعادة القدرة على استدامة الديون”. وكان تأمين التوصل إلى اتفاق مع دائني القطاع الخاص بمثابة عنصر حاسم في مسألة تمويل إنقاذ أوكرانيا من قبل صندوق النقد الدولي، جنبا إلى جنب مع الإصلاحات المحلية الصعبة.
وتعتبر ناتالي جاريسكو، وزيرة المالية التي تعد واحدة من التكنوقراطيين المولودين في الخارج، المشاركين في الحكومة الجديدة، خطة صندوق النقد الدولي حاسمة بالنسبة إلى أوكرانيا. وتقول “في مجتمع ما بعد الثورة، تعتبر الشرعية أمرا مهما جدا، داخليا ودوليا. هذا هو ما قدمه لنا صندوق النقد الدولي”.
الحاجة إلى شرعية سياسية اتضحت في الأسبوع الماضي، عندما أسفرت احتجاجات عنيفة بشأن خطط خاصة بمناطق الانفصاليين للحصول على صلاحيات أكبر، عن مقتل ثلاثة من جنود الحرس الوطني. وتأمل الحكومات الغربية أن يساعد الدعم المالي على تحقيق استقرار هذه الدولة السوفياتية السابقة.
التزام ضخم
بالنسبة إلى أوكرانيا، كانت تلبية مطالب صندوق النقد الدولي أمرا صعبا. وعلى الرغم من أن الصندوق وافق على تقديم حزمة بلغت قيمتها 17 مليار دولار في نيسان (أبريل) من العام الماضي، سرعان ما أصبح واضحا أن أوكرانيا تحتاج إلى مبالغ أكبر بكثير مما كان متوقعا أصلا. وفي وقت مبكر من هذا العام، أشارت حسابات صندوق النقد الدولي إلى أن فجوة التمويل بلغت 40 مليار دولار.
وكانت تدور في ذهن صندوق النقد الدولي تجربته المريرة في اليونان، عندما استطاع حاملو السندات في القطاع الخاص قبض ثمن استثماراتهم قبل أن تمر اليونان بأكبر عملية إعادة هيكلة للديون السيادية في التاريخ، ولم يكن لدى صندوق النقد الدولي أي نية لتقديم المال وحده. بدلا من ذلك، عرض أن يعطي أوكرانيا قرضا بقيمة 17.5 مليار دولار، على أن يقدم دائنون آخرون، بما فيهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، 7.5 مليار دولار أخرى. ويصر صندوق النقد الدولي على أن المبلغ المتبقي، البالغ 15.3 مليار دولار، ينبغي أن يأتي من دائني القطاع الخاص في أوكرانيا، بمن فيهم هاسينستاب.
وكان الأثر على السندات الأوكرانية كارثيا، إذ انخفضت أسعار السندات المستحقة في عام 2017 من 100 سنت في منطقة اليورو إلى 39 سنتا فقط في آذار (مارس) ـ عندما بدأت المفاوضات ـ رغم أنها تعافت إلى 66 سنتا عقب اتفاق الأسبوع الماضي.
وبالنسبة لهاسينستاب تمثل أوكرانيا فقط جزءا صغيرا من محفظته. وباعتباره مستثمرا مخالفا للتيار العام، نجح في سعيه إلى الحصول على بيئات استثمارية صعبة في الماضي، بما في ذلك إيرلندا في أعماق أزمة منطقة اليورو.
وقال في مقابلة مع “فاينانشيال تايمز”، “التقطنا نقاطا عندما كانت أوكرانيا – حتى قبل الأزمة – تمر في فترات من التوتر شهدت خلالها السوق عمليات بيع كبيرة”.
لكن أزمة الديون في أوكرانيا بلغت ذروتها في وقت تظهر فيه صناديق الأسواق الناشئة علامات على الإجهاد وصناديق هاسينستاب في فرانكلين تمبلتون تبدي أداء ضعيفا. وقد انضم هاسينستاب في آذار (مارس) إلى لجنة من المستثمرين الذين يقتنون فيما بينهم نحو تسعة مليارات دولار من ديون أوكرانيا – ما يكفي لعرقلة اتفاقية إعادة الهيكلة – وبدأ في إثارة سلسلة من الاعتراضات.
وأرادت المجموعة أن تعرف لماذا طالب صندوق النقد الدولي بأن تلبي أوكرانيا الهدف الغريب المحدد لنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، البالغة 71 في المائة، بحلول عام 2020 انطلاقا من نحو 100 في المائة هذا العام؟ ولماذا إعادة هيكلة الديون في هذا الوقت الذي يمكن أن يتدهور فيه الوضع في الشرق بشكل أكبر؟
وكانت هناك أيضا تساؤلات حول سبب اختيار كييف سندات وقروضا تبلغ قيمتها أقل من 23 مليار دولار لخططها الخاصة بإعادة الهيكلة، من أصل مجموع إجمالي بلغ 72 مليار دولار من الديون الحكومية، الأمر الذي فرض كثيرا من الأعباء على شريحة واحدة من الدائنين.
يقول إيجور هورديفيتش، من شركة بي تي جي باكتوال، وهي عضو في لجنة حاملي السندات، “إن المستثمرين كانوا متعاطفين مع كييف. لقد فضلنا موقفا لا يتم فيه اقتطاع 20 في المائة من أموالنا، لكن حاملي السندات يدركون أن أوكرانيا تعاني مشكلات خطيرة. إن الاقتطاع ليس هو النتيجة المرجوة، لكن إدراج أداة تعاونية قد يكون صفقة جيدة للمستثمرين”.
لكن داخل أوكرانيا كان هناك حذر حول حجم دائني الدولة ونواياهم. ويشير مستشارو الحكومة إلى أن أكبر دائنيها، فرانكلين تمبلتون، لديه أكثر من 800 مليار دولار من الأصول قيد الإدارة – ما يقارب عشرة أضعاف حجم الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا.
ويقول أليكساندر فالتشيشين، رئيس البحوث في البنك الاستثماري “آي سي يو” في مقره في كييف “هناك شكوك مفادها أن مديري الصناديق (…) الذين يشاركون في المحادثات مع الحكومة الأوكرانية، يقامرون مرة أخرى”. ويضيف أن “رهانهم الأول كان الاستثمار في أوكرانيا في ظل نظامها السابق الموالي لروسيا، والثاني هو أن الدفع لهم سيتم بغض النظر عما يحدث في أوكرانيا”.
حقائق قاسية
في الوقت الذي كانت فيه المفاوضات بين أوكرانيا ودائنيها تجرجر أذيالها، اتخذت كييف موقفا أكثر تشددا، معلنة أنها كانت مستعدة للتخلف عن دفع ديونها دون التوصل إلى اتفاق.
لكن التخلف عن الدفع قد يكون أمرا كارثيا، ليس فقط بالنسبة إلى أوكرانيا إنما بالنسبة إلى بقية العالم، بحسب ما يقول آندي هوندر، رئيس غرفة التجارة الأمريكية في أوكرانيا. “من المهم فهم الحقائق والتعقيدات في الدولة. إن وجود أوكرانيا القوية اقتصاديا أمر ضروري للأمن الغربي في المنطقة”.
ورغم مشكلاتها المالية استمرت الحياة في شوارع العاصمة، وإن شابتها الاحتجاجات العنيفة التي جرت الأسبوع الماضي. وبما أن الجزء الأكبر من الانخفاض في الناتج كان في الشرق الذي مزقته الحرب، لم يكن الأثر منظورا بالقدر نفسه في مناطق أخرى، رغم أن خفض قيمة الهريفنيا (العملة الوطنية) حد من عمليات شراء السلع الأساسية، وكذلك السيارات والأغذية المستوردة.
الأحجار التي انتزعت من أماكنها أثناء الاحتجاجات المناهضة للحكومة قبل 18 شهرا لكي تُقذَف على شرطة مكافحة الشغب، أعيدت إلى الشارع الرئيسي، كريتشاتيك. وكميات ضخمة من الأحجار تُخفي أعمال البناء في مبنى محترق حول الميدان، أو الساحة الرئيسية.
ويمتلك كثير من المواطنين احتياطيات من المرونة والحيلة تطورت لديهم خلال فترات النقص التي عاشوها في أواخر الفترة السوفياتية وانكماش ما بعد الشيوعية في التسعينيات. لكن كلهم تأثروا بالهريفنيا الآخذة في الهبوط والتراجع، مع أسعار فائدة متصاعدة تؤذي الفقراء وكبار السن بشكل كبير.
السؤال هو ما إذا كانت تلك المشكلات ستخفف جراء التعامل مع حاملي السندات، أو أنها ستظهر مرة أخرى إذا اضطرت الدولة إلى العودة إلى طاولة المفاوضات.
ويلاحظ جابرييل ستيرن، من شركة أكسفورد إيكونومكس، أن الأسواق تبدو غير راغبة في التعامل مع المخاطر السلبية التي لا تزال في أوكرانيا. وتلك تشمل احتمال تصعيد القتال في الشرق، وخسائر أكبر في القطاع المصرفي، وتكيف في المالية العامة أضعف مما هو متوقع.
يقول “أعتقد أن الدرس بات واضحا؛ إذا كنت مصمما على تجنب عملية إعادة هيكلة غير منضبطة، فإنك تكافح وتناضل للحصول على ما يكفي من تخفيض للديون”. وتظهر بحوث أجراها هارالد فينجر، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، أن ثمن تجنب الإعسار يمكن أن يعني صفقة أصغر حجما، يمكن أن تستلزم بعد ذلك مواصلة إعادة هيكلة الديون. والحكومات التي أعادت هيكلة ديونها دون إعسار ضمنت تخفيضا بمتوسط 8 في المائة في مقتنيات الدائنين من السندات. أما تلك التي أعسرت أولا، بما فيها روسيا في عام 1998 والأرجنتين في عام 2001، فقد ضمنت صفقات اشتملت تخفيضا نسبته 48 في المائة. وأبقت وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني على نظرتها السلبية إلى أوكرانيا، على الرغم من الصفقة المبرمة الأسبوع الماضي، وبررت قرارها بالمخاطر المتمثلة في العلاقة المتوترة بين كييف وموسكو والسندات التي باعتها أوكرانيا إلى روسيا في عام 2013، المستحقة في كانون الأول (ديسمبر). وإذا أوفت أوكرانيا بسداد الديون الروسية البالغة ثلاثة مليارات دولار هذا العام، فسيكون من الصعب على الحكومة، بحسب ستاندر آند بورز، إيجاد خمسة مليارات دولار لتخفيف عبء ديونها، الذي ترتكز عليه افتراضات صندوق النقد الدولي. وقد تنشأ مشكلات أخرى بسبب “عامل التحلية” المقدم للمستثمرين كجزء من إعادة الهيكلة. فقد تم منح الدائنين مكافأة غير عادية تؤتي ثمارها إذا استعادت أوكرانيا عافيتها، لكنها لن تجدي إذا تعثرت كييف. وتبدو تلك الاستثمارات، التي اقترحت أيضا من قبل يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليوناني السابق، جيدة. لكن بإعطاء وعود بدفع نسبة مئوية من النمو لعقدين من الزمن، فإنها قد تصبح “سلسلة حول رقبة الحكومة المقبلة”، بحسب ما يحذر تيموثي آشا، من نومورا. وتأمل كييف استخدام الاتفاقية للتركيز على رسالة أكثر إيجابية من انتعاش وليد ولحشد الدعم من السكان المنهكين، لكن المخاوف بشأن ديونها من المرجح أن تستمر. يقول جاكوب كريستينسين، المختص الاقتصادي في الوكالة المتخصصة في أسواق التخوم “إيكزوتكس”، “توضح عملية إعادة هيكلة ديون أوكرانيا المعضلة الكامنة في جميع أزمات الديون الحكومية”.
“إذا كان بإمكانك تأمين التوصل إلى اتفاقية بسرعة، فأنت تجنب اقتصادك كثيرا من العناء، لكن على الجانب الآخر قد لا يكون الأمر شاملا. أود القول إنه من غير المرجح أن تكون هذه هي نهاية مشكلات الديون في أوكرانيا”.