لوسي هورنبي
وصلت انفجارات مستودع المواد الكيماوية في مدينة تيانجين الشهر الماضي مباشرة إلى شقة يان هونجمي، محدثة كسرا في حوض والدتها عندما انهار وتحطم إطار النافذة وسقط على سريرها. بعد بضعة أيام، هطل مطر في المدينة مع بقع صفراء رغوية. وفي اليوم التالي، ظهرت آلاف من الأسماك الميتة على ضفاف النهر على شكل كتلة كبيرة من اللون الأبيض الفضي.
قالت وهي تتوسل المسؤولين لشراء منزلها: “هم يقولون لا توجد أي مشاكل الآن، ولكن ماذا عن المستقبل؟ ماذا لو تأثر أطفالنا في الشارع؟ نحن خائفون من التلوث الناجم عن المواد الكيماوية. رغم أنهم يقولون إنه لا يوجد تلوث والوضع آمن، لا نزال نعتقد أن التلوث موجود”.
التداعيات في تيانجين – التي طالت الهواء والماء والتربة – تعكس صورة التلوث الصناعي عبر الصين. الضباب الدخاني الكثيف الذي يحجب الشمس ويسبب ارتفاعا في نسب دخول الأشخاص للمستشفيات، الذي غالبا ما يطلق عليه اسم “كارثة الضباب الدخاني”، يتصدر العناوين الرئيسة للصحف في جميع أنحاء العالم. وأحيانا تتحول الأنهار بشكل غير مفهوم إلى اللون الأحمر، ويمكن ظهور كميات كبيرة من الأسماك الميتة بين عشية وضحاها، فيما الطحالب تحوِّل البحيرات إلى اللون الأخضر اللامع.
لكن تلوث التربة – غير المرئي، وآثاره الباقية طويلا حتى بعد زوال الملوث الأصلي – قد يكون أكثر مشكلة شائكة الآن.
في مواجهة السخط العام، بدأت بكين في معالجة مشكلة تلوث الهواء عن طريق تحديث المصانع ونقل الصناعات المستهلِكة للفحم بعيدا عن المدن. وبحلول عام 2020، من المفترض أن تعمل عديد من المجاري المائية الرئيسة على تلبية المعايير الجديدة لمياه الشرب. قد تكون بعض هذه الخطط العلاجية ذات نتائج عكسية؛ لأنه يمكن أن يكون لنقل المصانع المسببة للتلوث إلى المناطق النائية أثر عكسي يتمثل في تلويث وإفساد الهواء والتربة والماء الأقرب إلى منابع النهر.
مع ذلك، تبدأ الحكومة فقط الآن في التعامل مع مشكلة تلوث التربة، بعد سنوات كافح خلالها المختصون للفت الانتباه لهذه القضية.
في عام 2004، تعرض عمال كانوا يحفرون لبناء محطة المترو في سونجيا تشونج في بكين للتسمم بسبب غازات متسربة من مصنع مبيدات مهجور. وهذا أدى إلى قوانين الصين الأولى المتعلقة بتطهير المواقع الصناعية المهجورة. أما الحوادث التي وقعت أخيرا، بما فيها تلوث بالسيانيد بعد الانفجارات التي وقعت في تيانجين، فتعمل على رفع الوعي العام.
تقول لان هونج، وهي أستاذة في كلية البيئة والموارد الطبيعية في جامعة رينمين، تعمل على إعداد خطة لتمويل عملية للتخلص من تلوث التربة في الصين: “دخلت الصين عصر قناة الحب” ـ وكان اكتشاف أن حي “قناة الحب” الذي تم تشييده بالقرب من شلالات نياجارا قد بني في موقع يحتوي نفايات سامة، وهو اكتشاف تم في السبعينيات، قد دفع الولايات المتحدة إلى تأسيس ما سمته “صندوق التمويل الممتاز” الخاص بالمواقع المتضررة. وتحتاج الصين، بحسب تقديرات لان، إلى سبعة تريليونات رنمينبي (1.1 تريليون دولار) للتخلص من مشكلة تلوث التربة، وهو ما يعادل ثلث احتياطياتها من النقد الأجنبي، إذا استخدمت الممارسات التي تم تطويرها في الولايات المتحدة واليابان. وتقول: “لا تستطيع الصين تحمُّل هذه التكاليف”.
ويقدر البنك المركزي الصيني أن أهداف وزارة البيئة للحصول على هواء وماء أنظف تتطلب وحدها تريليوني رنمينبي سنويا على مدى السنوات الخمس المقبلة، على الرغم من أن البنك المركزي يريد “تمويلا أخضر” للتخفيف على خزانة الحكومة. وهناك خطة إجرائية قيد الإعداد لمعالجة تلوث التربة، وهي تتطلب أيضا مخصصات كبيرة في الميزانية خلال الخطة الخمسية المقبلة؛ 2016 ـ 2020. وبحسب معدلات الإنفاق الحالية التي تبلغ نحو 40 مليار رامب رنمينبي، ستستغرق تسوية مشكلة تلوث التربة ألف عام، كما تقول لان.
مخاوف إعادة التطوير
“التمويل الأخضر” يستطيع تحقيق نتائج محدودة فقط. فبإمكان المستثمرين فرض رسوم على مياه الصرف المعالجة، لكن هناك عائدات قليلة على إصلاح التربة. يقول واحد من رجال الأعمال: “إن التحدي الأكبر هو التمويل. من أين تأتي الأموال؟”.
وفقا لدراسات البنك الدولي، أحد مصادر التمويل هو شركات التطوير التي ينبغي أن تكون على استعداد لتنظيف المواقع الملوثة في المناطق الحضرية لرفع قيمة أراضيها. لكن هذه الفكرة لم تؤت ثمارها بعد. وقد تم إنشاء صندوق خاص لواحد من المواقع الرئيسة، الحرم السابق لمصنع شوغانج للصلب في بكين، بعد تراجع شوغانج عن إنفاق مبلغ 800 مليون دولار لإعادة تأهيل الأراضي.
عندما تم بناء مساكن بالقرب من المواقع المستصلحة كانت هناك أرباح ضئيلة للمطورين. وأكبر مشروع تطهير في الصين حتى الآن، هو مصنع سابق للفحم الحجري في بكين، تحيط به شقق سكنية لذوي الدخل المنخفض الذين أجبروا على الخروج من أحياء تاريخية في العاصمة. وينفق السكان الذين يشعرون بالمرارة ما يعادل ثلاثة أضعاف قيمة إيجاراتهم المدعومة على شراء المياه المعبأة في زجاجات.
مع ذلك، حتى لو بدأت المواقع الصناعية الحضرية فعليا في نشر الشقق الفاخرة، سوف يبقى تلوث التربة آفة المدن والأراضي الزراعية الرئيسة. يقول تشين تونجبين، مدير مركز الإصلاح البيئي في الأكاديمية الصينية للعلوم: “لدى الولايات المتحدة وأوروبا الكثير من مواقع الحقول المتضررة، لكن الصين مختلفة؛ لأن الكثير من أراضيها الزراعية ملوثة”.
بدءا من الخمسينيات، أنشأ المخططون المركزيون مصانع للصناعات الثقيلة في أعماق الريف. وحملت الرياح والأمطار الضباب الدخاني الأسود والغبار إلى البلدات المجاورة. وما هو أسوأ من ذلك، نقلت قنوات الري مياه الصرف من المناجم والمصاهر إلى الحقول على بعد أميال. وعندما انطلقت الإصلاحات الاقتصادية عام 1980، أفرط المزارعون في استخدام المبيدات والأسمدة لإنقاذ المحاصيل المتضررة من التربة الميتة.
الاعتراف المتزايد بأن تلوث التربة يلوث المياه، التي بدورها تلوث الأراضي الزراعية، اضطر بكين إلى تسريع خطتها المتعلقة بتلوث التربة، بدلا من معالجة قضية الهواء ومن ثم المياه وترك مشلكة التربة حتى النهاية.
في عام 2011، صدمت مجلة “كايشين” الصين بصورة غلاف كانت لنبتة أرز تحولت فيها الحبوب إلى اللون الفضي اللامع. وكشفت عن أن الأرز في مقاطعة هونان الجنوبية، أكبر المنتجين، كان ملوثا بالكادميوم.
زاد التقرير من غضب سكان المدن الذين كانوا يشعرون بالقلق أصلا على سلامة الغذاء ومشكلة الضباب الدخاني المستمرة. يقول تشو ليكينج، الذي يبحث في سلامة الغذاء والقضايا البيئية في كلية إدارة الأعمال في جامعة جيانجنان: “ستصبح كل من آثار التلوث وسوء استخدام المدخلات الزراعية مثل المبيدات والأسمدة المرحلة الكبرى التالية في النقاشات المتعلقة بسلامة الأغذية”.
ونتيجة قلقها بشأن مبيعات الأرز وغيره من المحاصيل الزراعية، كانت حكومة مقاطعة هونان غامضة بشأن المكان الذي يكمن فيه التلوث بالضبط. وهي ليست وحدها في ذلك.
في عام 2014، نشرت الصين أخيرا دراسة تتعلق بتلوث التربة أجريت في الفترة 2006 ـ 2011، كلفت 150 مليون دولار وكانت مصنفة على أنها “من أسرار الدولة”. وكان المسؤولون والمختصون متوترين حقا قبل إصدار التقرير، بحسب ما يقول أحد المطلعين، خوفا من أن يلحق ضررا بالتجارة الزراعية. ويعتقد كثيرون أن سمعة مقاطعة هونان المتعلقة بالأرز الملوث بالكادميوم أثرت على المبيعات، رغم أن الإحصاءات الرسمية تبين ارتفاعا في الإنتاج منذ صدور تقرير “كايشين”.
وكانت نتائج التقرير مثيرة للقلق، إذ كان خمس الأراضي الصالحة للزراعة ملوثا تقرييا. ولم تكن هناك أي إشارة إلى كيفية توزيع التلوث وانتشاره، أو أين كانت النقاط الأكثر تأثرا.
ويعكس القلق بشأن المحاصيل الزراعية الملوثة قدرة المواطنين في المناطق الحضرية على تحديد جدول الأعمال الوطني. وهذا يفسر جزئيا تفضيل نقل المصانع الملوثة بعيدا عن المدن المزدهرة إلى مناطق تكون فيها الأنظمة والقوانين أكثر تساهلا، ويكون الناس فيها فقراء جدا ليس بإمكانهم التقدم بأي شكوى.وفي الوقت الذي يبدي فيه المواطنون قلقهم حيال الغذاء والهواء، تكمن المخاطر في مياه الشرب والتربة. ويتم استنشاق مخلفات المعادن الثقيلة مع الغبار الذي يثيره الأطفال وهم يلعبون، والجسيمات التي تثيرها معاول المزارعين والسيارات المارة. وفي أحد أودية هونان التي تعرضت لتسرب مادة الزرنيخ، طُلِب من القرويين عدم أكل المحاصيل المحلية أو شرب المياه المحلية. وبعد مرور أربعة أشهر أظهرت عينات من شعر الأطفال المستويات المرتفعة نفسها من الزرنيخ تماما مثل عينات السكان كبار السن.
احرق وادفن
النسخة اليابانية من “قناة الحب” هي التسمم بالكادميوم والزئبق الذي ظهر في الستينيات. وتشمل طرق الاستصلاح هناك، مثل الولايات المتحدة، كشط التربة الملوثة وحرقها ودفنها – أو في بعض الحالات، إغراقها في أعماق البحر. هذا النهج غير ملائم للأراضي الزراعية الملوثة. إذ تبلغ تكلفة طريقة الحرق والدفن 47 ألف دولار للهكتار الواحد. ولأن حظر الزراعة مطبق في الأصل على نحو 3.3 مليون هكتار في الصين، ستكون التكلفة بأرقام فلكية.
هناك أيضا مسألة الرقابة. وقد أدى التباطؤ الاقتصادي إلى تحويل مطوري العقارات إلى مقاولين في إصلاحات التربة. وإذا اتبع المقاولون غير المدربين أو عديمي الضمير أساليب ملتوية وأغلقوا المحارق بشكل غير ملائم، أو تجاهلوا أماكن الحفر والدفن، فإن الملوثات يمكن أن تدخل مرة أخرى إلى الهواء والماء والأرض.
وثمة نهج آخر قيد التجربة هو استخدام المواد الكيماوية لإصلاح المعادن في التربة. لكن الخبراء الصينيين منقسمون حول النتائج. وبعض منهم يرجع إلى علاج تلوث التربة عن طريق حقن المزيد من المواد الكيماوية. أيضا، يتطلب التطبيق السليم عمالا مهرة والملوثات المختلفة تتطلب مواد كيماوية مختلفة، ما يؤدي إلى تعقيد الحلول القابلة للمناقشة التي يريدها البيروقراطيون.
كل نهج يتم اتباعه لحل المشكلة يتضمن إجراء مفاضلة. يقول سكوت ستيفل، مدير عام الأعمال التجارية في شركة بيروكسي الكيماوية، التي تصنع منتجات لإصلاح المعادن في التربة: “وصلت الصين إلى مرحلة تحاول فيها تقدير حجم المشكلة. ليس هناك حل سحري”. إن منظر السرخس الذي ينشر سعفه بلطف على مكتب تشين في سجل المستخلصات الكيماوية يمثل أملا آخر. فالعملية الضوئية – استخدام النباتات لامتصاص المعادن الثقيلة من الحقول وحقول الأرز – تعد بوجود حل رخيص التكلفة وفعال. لكنه حل ينطوي على مخاطر.
يجب أن يتم حرق المحصول ودفنه، وإلا ستدخل المعادن الثقيلة مرة أخرى إلى التربة. إن محصول الأرز مناسب جدا لامتصاص المعادن الثقيلة، لكن ماذا لو باع أحدهم المحصول الملوث؟
وتتحول بعض القرى الملوثة بشكل سيئ إلى محاصيل الزينة، مثل الأزهار أو الشتلات، التي لا يمكن أكلها. وهذا يحافظ على الدخل الزراعي، لكنه لا يعالج مشكلة المخاطر الصحية. ولا يمكن تطبيقه على نطاق واسع دون الإضرار بكميات الإنتاج الغذائي.
إن الخيارات الأبطأ والأرخص تحمل في ثناياها تكاليف خفية. وكلما استغرق الأمر وقتا أطول لمعالجة المشكلة، بقيت التربة خاملة فترة أطول. حتى تقديرات التكاليف السخية التي طورتها لان، من جامعة رينمين، لا تشمل التعويض عن فقدان المحاصيل أو خسارتها. وهذا يعني أن المزارعين الصينيين قد يعارضون فكرة إزالة الملوثات التي تتسرب ببطء إلى عظامهم ودمائهم. حتى المحاصيل المتضررة يمكن بيعها، فعديد من الناس الموجودين في الريف لا يملكون أي مصدر آخر للدخل.
قضايا إعادة التوطين
قبل عقد من الزمن، دفعت تركيزات المعادن الثقيلة في نهر شيانغ حكومة مقاطعة هونان إلى إعادة نقل معالجات المعادن من مدينتين، شيانغتان وتشوتشو، لحماية مياه الشرب في العاصمة، تشانجشا. ورحبت المدن الرئيسة، مثل هينجيانج، بحماس بالمصانع باعتبارها تشكل دفعة قوية للنمو.
في العام الماضي، تم فحص واختبار مستويات الرصاص المرتفعة لدى الأطفال الذين يعيشون قرب واحد من مصانع هينجيانج. وتعهدت سلطاتها بنقله مرة أخرى، إلى الجانب الآخر من المدينة.
إن التسمم بالرصاص، أو الكادميوم، أو غيرهما من المعادن الأخرى يسبب الضرر للشباب بشكل خاص. وتضيف أحداث الشغب التي أثارها الآباء الذين تعرض أبناؤهم للتسمم اضطرابات اجتماعية إلى قائمة طويلة من الأسباب الداعية إلى التستر على نطاق التلوث الذي تعرضت له التربة. وكتب البنك الدولي، عندما قدم منحة قيمتها 15 مليون دولار في نيسان (أبريل) لتطهير وتنظيف مواقع مصانع سابقة للمبيدات: “إن إمكانية الوصول للمعلومات حاليا محدودة بالنسبة لفئة الـ 40 في المائة الأدنى من السكان، الذين هم نسبيا الأكثر تعرضا للمناطق المتدهورة أو عالية التلوث من غيرهم من الفئات السكانية الأخرى”.
“نسبة الـ 40 في المائة الأدنى” تمثل الناس الوحيدين الذين يعيشون في قرية تشينجيان، والمحصورين بين مجمع مهجور للمواد الكيماوية والسدود العالية لنهر شيانج في مقاطعة هونان. وكانت المزروعات تموت حين كانت الأمطار الغزيرة تجرف السخام من المجمع إلى الحقول. الآن أصبحت تنمو بشكل أفضل، كما يقول يانج، وهو وكيل يتعامل في الخردة المحلية، في حين كان مساعده المراهق المعاق عقليا يبتسم من ورائه.
وافتُتِح أول معمل في جينجيانج في 1980. وسرعان ما بدأت المعالجات العشرين بنفث الدخان في الجو وأدت إلى تلويث النهر والحقول. يقول يانج: “في ذلك الحين لم يكن أحد يهتم إن كان هذا ساما أم لا. كانوا يريدون المال فقط”.
قبل ثماني سنوات وصل فريق بيئي محلي لاختبار بئر القرية. وشعر أعضاؤه بارتياع شديد إلى درجة أنهم أغلقوا البئر بالأسمنت. وتقول زوجة أحد أصحاب المحال كانت تظهر فقاعات صفراء في الماء المغلي، ومنذ ذلك الحين أخذت ابنتها وحفيدتها الصغيرة لا تستخدمان سوى الماء المعبأ في قوارير.
خرجت المعامل الكيماوية من جينجيانج قبل سنتين. ويقول يانج: “ذهبوا إلى مكان ما في الجبال، حيث لا توجد تجمعات سكانية كبيرة ضدهم مثلما هي الحال هنا. خطط إعادة المعالجة التي وضعتها حكومة كزيانجتان على الإنترنت تشتمل على تحويل المنطقة إلى “مركز كبير لصناعة الخدمات”. أحد الكوادر المتقاعدين في القرية لم يكن على علم واضح بالخطط الرامية إلى إعادة التوطين. ولم يتم إخبار أي شخص آخر بذلك. قبل بضعة أشهر، لاحظ القرويون فريقا وهو يجري اختبارات على الأرض. وقال أحدهم إنه كان يجري اختبارا لمعرفة تلوث التربة. ولم يسمع القرويون أي شيء منذ ذلك الحين.