دخل الاقتصاد العالمي حقبة جديدة حصل المحظور ولم يستطع الصينيون تفادي «الهبوط الصعب» بعد 25 عاما من النمو الاقتصادي المذهل.
ومنذ خمس سنوات بدأت محركات واسرار هذا النمو بالتلاشي، ليس نتيجة خطأ ما ارتكبه الصينيون بل هكذا هي الديناميكية الاقتصادية. فمسببات النمو تصنع النمو وهذا النمو يقضي تدريجيا على مسبباته، فتتلاشى تلك المسببات بتراجع النمو.
فقد اعتمدت الصين على نموذج اقتصادي يرتكز على التخطيط المتدرج عبر اشراك المناطق الريفية في حركة النهوض الاقتصادي والاستفادة من تدني اليد العاملة الصينية.فكانت الاخيرة وكلفتها المتدنية نسبة الى اوروبا والولايات المتحدة، حكاية عقدين من الزمن. غيّرت هذه الحكاية خارطة الدول الصناعية فتراجعت اوروبا والولايات المتحدة كدول صناعية واصبحت الصين مصنع العالم. الا ان هذه الحكاية دخلت فصلها الاخير في السنوات الخمس الاخيرة.
فالنمو الاقتصادي ايقظ المارد الصيني وايقظ معه مستوى معيشته، فارتفع اجر العامل الصيني بما يناهز العشر اضعاف منذ العام 2000 فانتج طبقة وسطى.
ومن هنا فان سر النمو اختفى، حيث وصل معدل الاجر في الصين الى ما يقارب الـ 500$ شهريا ما يجعله مشابها لذاك في الولايات المتحدة واوروبا.
هذا الواقع ما لبث ان ادركه الصينيون، ومنذ العام 2008، وفي خضم الازمة المالية العالمية، بدا في الافق تراجع ديناميكيات هذا النمو. حاول الصنييون الانتقال الى نموذج اقتصادي جديد يعتمد على الاستهلاك: اي الطبقة الوسطى التي انتجها النمو الاقتصادي. هذا النموذج اعتمد على ضخ تريليونات من الدولارات في الاسواق، وتعتمد على اقراض المستهلك. من ناحية اخرى ومع تراجع التنافسية للشركات الصينية بسبب ارتفاع الكلفة وتباطؤ الاقتصاد العالمي، عمدت السلطات الصينية الى انشاء شركات مأمومة «state enterprises» وسهلت من عملية اقراض للمؤسسات الخاصة والعامة معاً.
كما لجأت الكثير من هذه الشركات الى الاقتراض بالدولار لمواجهة هذه الحقبة الجديدة.
كانت تلك احدى الاخطاء الابرز ولعلها الوحيدة التي ارتكبتها السلطات الصينية، فالقوانين الاقتصادية كالقوانين الطبيعية تفرض نفسها ولو بعد حين.
كان الهاجس الاكبر للسلطات الصينية منذ العام 2008 الحفاظ على ديناميكية النمو الاقتصادي. هو هاجس حقيقي تحول منذ العام 2013 الى هاجس اخر اكثر خطورة وهو ايجاد فرص عمل باي طريقة كانت. فالنظام الشيوعي الحاكم في الصين يدرك مكامن الخطر على استمراريته ويدرك ان مزيج الطبقة الوسطى والبطالة يشكل احد اهم محركات التغيير في الداخل.
من هذا المنطلق، ومع دعم الدولة المفرط للشركات من اجل الاستمرارية في الانتاج ادخل الاقتصاد الصيني نفسه في ما يعرف بالـ overcapacity اي فوائض القدرات الانتاجية.
ومن المعلوم ان القطاع الخاص والاقتصاد الحر عادة لا يدخلان نفسيهما في تلك الفوائض بسبب الخصائص التي تتمتع بها الرأسمالية من ملكية فردية وملكية خاصة ودافع الربح.
والحقيقة ان الاعتماد على القطاع الخاص وقبول افلاس بعض الشركات كان يمكن ان يعزز القدرة التنافسية للشركات الصامدة عبر الابتكار وزيادة الانتاجية اللذين يجب ان يشكلا الرافعة الجديدة للنمو الاقتصادي الصيني، اضافة الى الاستهلاك غير المعتمد على الاقتراض المفرط.
واللافت ان هاجس النمو وايجاد فرص العمل لاحقاً السلطات الصينية حتى تبين في احد التقارير ان النمو الاقتصادي الصيني في العام المنصرم والحالي مضخم ومزيف. فالنمو الحقيقي هو 4% بدلا من 7% كما يقال. وصحيح ان الصين خلقت 3،7 ملايين فرصة عمل في العام الحالي، الا ان معظم فرص العمل هي مشاريع وجدت لتنتج ما لا يحتاجه الاقتصاد وتوظف من اجل التوظيف.
الحكاية تطول، الاسواق المالية تشتم تلك الاخبار من مسافات بعيدة لتحرك وجهتها الجديدة.
اشتمت الاسواق هذه الاخبار منذ منتصف العام الحالي، وعندما اصبحت واقعاً لا يمكن التغاضي عنه تبدل المشهد، واصبحت الصين مصدر قلق للمستثمرين. وبما ان هناك عدداً هائلاً من الشركات الاميركية والاوروبية التي تعمل في الصين، تراجعت توقعات ارباح تلك الشركات مما ادى الى انخفاض اسعار اسهمها في البلد الام. اضف الى ذلك لجوء السلطات الصينية الى خفض قيمة العملة الصينية مما اكد للاسواق ان الاقتصاد يعاني من تباطؤ متزايد.
وبعد عملية التصحيح في الاسواق، ستعود الاسواق الاميركية الى التعافي وستبقى الاسواق الصينية في ضغط هبوطي، يضاف الى ذلك نهاية التيسير الكمي في الولايات المتحدة و«المال الرخيص» او «cleep Money» والتي ستنعكس سلبا ايضا على الاقتصادات الناشئة ومنها الصين.
الدكتور عبد الله ناصر الدين
استاذ الاقتصاد في جامعة بيروت العربية