بعدما اقترن اسم البحر الأبيض المتوسط غرباً، على مشارف سواحل إيطاليا، بالموت ومقبرة المهاجرين، انبعثت حياة جديدة بالبحر نفسه شرقاً، قبالة ساحل منطقة بور سعيد المصرية على بعد 107 كلم، بحقل “الشروق”، حينما أعلنت الشركة الإيطالية “إيني”، في 30 أغسطس/ آب الماضي اكتشافها لأكبر بئر للغاز الطبيعي في مصر ومياه المتوسط، أطلقت عليه اسم “زهر”.
“العربي الجديد”، تقصّت المزيد من المعلومات حول الحقل الضخم من قلب “إيني”، لمحاولة رصد تداعيات هذا الاكتشاف الذي أظهر، بحسب البيانات المعلنة، أن احتياطيات الحقل تعتبر الأضخم في منطقة المتوسط، حيث تصل إلى 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز، في مسافة تقارب 100 كيلومتر مربع من المنطقة البحرية.
ومع انتشار خبر الاكتشاف الجديد للغاز بمصر، برز بشكل ملح التساؤل عن موعد انطلاق استخراجه، لذلك نقلنا السؤال إلى مصدر مسؤول بالشركة، مقرّب من الرئيس التنفيذي لشركة إيني، كلاوديو ديسكالتسي، حيث أكد في حديثه لـ”العربي الجديد”، أن الانطلاق الفعلي لاستخراج الغاز الطبيعي من بئر “زهر” بحقل “الشروق”، سيكون ما بين يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط من مطلع السنة المقبلة، أي مباشرة بعد الانتهاء من عطلة رأس السنة الميلادية.
وفي رده على سؤال حول ما إذا كان لاكتشاف الغاز الطبيعي لبئر “زهر”، أثر اقتصادي تستفيد منه إيطاليا، قال المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إن المردود الاقتصادي لاستخراج الغاز سيكون بادياً على المستوى الاقتصادي لصالح مصر، بالإضافة إلى الشركة صاحبة الامتياز.
ويعدّ بئر “زهر”، بنظر محللين إيطاليين، أحد اكتشافات الغاز الطبيعي المهمة، أكثر من أي وقت مضى، سواء بمصر أو البحر الأبيض المتوسط. وسيتم حفره بعمق إجمالي قدره 4131 متراً، مع نحو 630 متراً تخترق طبقة حاملة للهيدروكربونات، وهي كربونات من حقبة “ميوتشينيك”، وللبئر أيضاً إمكانية الحفر على مزيد من الأعماق، وهذا ما سوف يتم التحقيق فيه مستقبلاً، حسب المصدر.
ويذكر مصدر موثوق آخر من الشركة الإيطالية “إيني”، أن الغاز الطبيعي المكتشف حديثاً في المياه المصرية، سيسد حاجات مصر لمدة “تقارب عشرات السنين، وهي المدة التي تعادل اثنتي عشرة سنة من الاستهلاك للغاز في السوق الداخلي لإيطاليا، التي يستهلك سكانها الغاز الطبيعي بكميات كبيرة، خصوصاً خلال الفصول الباردة، وذلك لأجل التدفئة من البرودة الناتجة عن انخفاض درجة الحرارة، التي تكون تحت الصفر أحياناً، خصوصاً في مناطق الشمال المرتفعة حيث سلسلة جبال الألب.
نزعاج الاحتلال الإسرائيلي من الاكتشاف الجديد للغاز بحقل “الشروق” المصري، كان له صدىً بإيطاليا، التي استضاف رئيس وزرائها، ماتيو رينتسي، نظيره من الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ضمن عشاء عمل، نهاية أغسطس/ آب الماضي، بصالة الضيافة بالقصر القديم، بفلورانسا (مسقط رأس ميكيافيلي)، قبل ساعات من إعلان “إيني” عن اكتشافها لبئر “زهر” بمصر.
الوضع الأمني
الوضع الأمني الذي تعيشه مصر، بعد ثورة يناير 2011، حيث كان تفجير أنابيب الغاز في سيناء أمراً بارزاً، هو ما جعل الشركات العالمية المستثمرة في الطاقة تطرح سؤالاً ملحاً حول الاضطرابات، وهو السؤال نفسه الذي وجهناه إلى مصدرنا المقرّب من الرئيس التنفيذي لـ”إيني”، غير أنه أكد لنا بما يفيد الجزم بأن شركته تنأى عن الخوض أو التعليق على أي أمر سياسي وأنها مستمرة في عملها.
غاز ليبيا
إيطاليا، التي اختُطِف أربعة فنيين من مواطنيها، قبل أيام، قرب محطة الطاقة مليتة في طرابلس الليبية، تستورد أغلب غازها الطبيعي عبر أنبوب يربط بين صقلية جنوباً، قادم من شمال أفريقيا في بلد مزقته الحرب الأهلية، وكذلك الشيء نفسه شمالاً حيث خط الغاز القادم من أوكرانيا التي تعيش على وقع الرصاص بين الإخوة الأعداء. لذلك فإن ايطاليا، ستكون أمامها فرصة لتنويع سوقها في اقتناء الغاز الطبيعي نحو شرق المتوسط، حيث مصر الواعدة بالطاقة.
والرئيس التنفيذي لشركة إيني، كلاوديو ديسكالتسي، لم يتوانَ مباشرة بعد الاكتشاف عن الذهاب إلى مصر، لتأكيد اهتمام مؤسسته الإيطالية بالغاز المصري وتطوير استخراجه.
ولأهمية الغاز الطبيعي واستراتيجيته الحساسة أيضاً في أمن الطاقة لإيطاليا، فقد رتب ديسكالتسي خلال زيارته للقاهرة، عدداً من اللقاءات السياسية على أعلى مستويات الدولة المصرية، انطلاقاً من رئيس الدولة، ورئيس الوزراء ومروراً بوزير البترول والثروة المعدنية.
دبلوماسية الطاقة
وزادت دبلوماسية الطاقة المنبعثة من الاكتشاف الجديد حينما أصدرت الشركة بياناً صحافياً تضمّن كلمة رئيسها الذي قال بالمناسبة “إن مصر لا تزال لديها إمكانات كبيرة، خصوصاً مع هذا الاكتشاف التاريخي، الذي سيكون قادراً على تحويل سيناريو الطاقة ببلد بأكمله”، وأضاف كلاوديو بلغة يطبعها كثير من الكياسة والأسلوب الدبلوماسي “مصر البلد الذي يرحب بنا أكثر من 60 عاماً، يؤكد استكشاف محور استراتيجية نمونا: في السنوات الـ7 الأخيرة اكتشفنا 10 مليارات برميل من الموارد و300 مليون دولار في الأشهر الستة الماضية، ما يؤكد مكانة إيني على مستوى عال من هذه الصناعة”.
وفي سياق منسجم، أصدرت الخارجية المصرية بياناً صحافياً تداولته وسائل إعلام إيطالية، جاء فيه أن النائب الأول لرئيس مجموعة إيني للطاقة، لابو بيستللي، أكد خلال لقاء مع السفير المصري لدى روما، عمرو حلمي، أن للاكتشاف الغازي الجديد “أبعاده الإقليمية والدولية التي ستعزز من مكانة مصر على خريطة الطاقة الدولية لامتلاكها أكبر حقل للغاز الطبيعي في منطقة البحر المتوسط”.
إذا كان الاكتشاف أكبر بئر للغاز الطبيعي في حقل الشروق، بمصر ومياه البحر الأبيض المتوسط، سيخدم الاقتصاد المصري بالدرجة الأولى، كما يقول مسؤولون عن الشركة المكتشفة للغاز، فإنه من غير المنطقي ألا يخدم هذا الاكتشاف السوق الداخلية للطاقة في إيطاليا، وأيضا أوروبا، ولعلّ ما تداوله بعض القيّمين الأوروبيين على تسيير شؤون الطاقة، أول أمس الجمعة، في لقاء مهني رفيع المستوى، خير دليل على ذلك، حيث صادف تواصلنا مع مقر شركة “إيني” بميلانو، تنظيم لقاء هام جمع الرئيس التنفيذي لشركة إيني، كلاوديو ديسكالتسي، وضيفه ماروس سيفكوفيتش، نائب رئيس المفوضية الأوروبية والمفوض الأوروبي في اتحاد الطاقة.
وقد تميّزت هذه القمة بمباحثات تهم الأمن الطاقي لمجمل السوق الأوروبي الداخلي للطاقة، وكذا سياسة مشتركة للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.