كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
منذ اللحظة الأولى لانطلاق الحراك المدني في الشارع تمّ الفصل بين عفوية هذا الحراك الذي حصل بمعزل عن أيّ أجندة حزبية، وبين الفريق الأقدر على توظيفه لمصلحته.من الظلم بمكان وضع الحراك في الشارع في خانة ٨ أو ١٤ آذار، خصوصاً انّ الفريقين ظهرا بمظهر المراقب لهذا التحرّك في ظل تساؤلاتهما عن خلفياته وأهدافه والمدى الذي يمكن أن يبلغه، ولكن من الظلم أيضاً وَضع المتظاهرين لفريقي ٨ و ١٤ آذار في الخانة نفسها، أي مساواتهما والتصويب عليهما والدعوة الى التخلّص منهما.
فقوى ١٤ آذار أخطأت في محطات عدة، وقد يكون أبرزها تعليق ثورتها او مشروعها للعبور إلى الدولة، والمساكنة مع سلاح «حزب الله» وتحديداً في الحكومة الأخيرة التي حصلت بعد الشروط التي وضعتها برفض أي مساكنة قبل خروج الحزب من سوريا وتسليم سلاحه، ومساهمتها في تجميد الحياة السياسية عبر تغطيتها التمديد لمجلس النواب، فضلاً عن أنّ ممارستها للسلطة لم تظهر أنها تختلف كثيراً عن ممارسة ٨ آذار.
وانطلاقاً من مبدأ انّ الحياة تكره الجمود، جاءت أزمة النفايات لتخرق هذا الجمود، ولكن هذه المرة من الباب المطلبي نتيجة وَجع الناس وقرفها، غير انّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا التحرك كان ليُبصر النور لو لم تعلّق ١٤ آذار تحرّكها وانتفاضتها؟
بالتأكيد كلا، فهذا التحرك تسَلل من نافذة التبريد السياسي، هذا التبريد الذي كلّ الهدف منه ترييح الحياة السياسية من خلال التأكيد على أولوية الاستقرار وربط مصير الأزمة السياسية بما ستؤول إليه أزمة المنطقة.
فلَو حافظت ١٤ آذار على وتيرة المواجهة الوطنية نفسها التي حكمت المرحلة بين عامَي ٢٠٠٥ و ٢٠١٣ لَما أفسحت في المجال أمام بروز تحركات وحركات من هذا النوع، هذه الحركات التي من حقها ان تعبّر عن مطالبها، وهي مطالب مشروعة في شقّها المطلبي، ولكن ليس من حقها إطلاقاً اغتيال أو محاولة اغتيال ١٤ آذار، لأنّ أي محاولة من هذا النوع ليست بريئة، بل ترمي عن سابق تصور وتصميم إلى التخلّص من ميزان القوى الذي حكم لبنان منذ العام ٢٠٠٥ بغية تفرّد «حزب الله» واستئثاره بالقرار السياسي في لبنان.
فما عجز الحزب عن تحقيقه بالقوة يحاول اليوم استغلال غضب الشارع من الواقع المُذري الذي وصلت إليه البلاد من أجل إطاحة قوى ١٤ آذار، لأنه إذا كان التحريض على هذه القوى يمكن أن يفعل فعله ربطاً بالتركيبة السياسية لحركة ١٤ آذار، فإنّ تركيبة «حزب الله» غير قابلة للاهتزاز كونها من طبيعة عسكرية-أمنية. وطالما الشيء بالشيء يذكر فإنّ كل الحراك في سوريا عَجز عن هزّ عرش الرئيس السوري، الأمر الذي حوّل الثورة المدنية إلى ثورة مذهبية مسلحة.
فالإصلاح ضروري ومطلوب، والفساد كارثة ومرفوض، وضغط الشارع أساسي للتغيير، ولكن من أجل أن يحقق هذا التغيير أهدافه يجب أن يتجنّب الآتي:
أولاً، تجنُّب الفوضى التي تقوِّض ما تبقّى من مؤسسات، لأنّ أي إضعاف لمؤسسات الدولة يقوّي مؤسسات الدويلة.
ثانياً، تجنُّب أي تغيير لا يرتكز إلى خريطة طريق واضحة تلافياً لتقديم السلطة على طبق من فضة إلى ٨ آذار.
ثالثاً، تجنُّب العنف والمواضيع السياسية الخلافية مقابل التركيز على الشؤون المطلبية والتطوير والتحديث من داخل النظام والمؤسسات وليس خارجهما.
رابعاً، تجنُّب إسقاط التوازن القائم بين ٨ و ١٤ آذار، لأنّ التوازن يشكّل المدخل للتغيير، فيما استئثار فريق ٨ آذار بالحكم سيؤدي إلى خنق التغيير تماماً كما حصل ويحصل في سوريا.
وانطلاقاً ممّا تقدّم لا بدّ من ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى، أي محاولة للتصويب على ١٤ آذار وتحييد سلاح «حزب الله» الذي حجز مشروع العبور إلى الدولة، لا يمكن اعتبارها سوى محاولة من الحزب بأدوات أخرى.
الملاحظة الثانية، الشارع لم ولن يكون البديل عن 8 و 14 آذار أو عن 14 آذار منفردة، ويتوهّم من يعتقد ان حالة الشارع يمكن ان تتحوّل الى أمر واقع في يوم من الأيام في ظلّ وجود السلاح، لأنّ ما عجزت عنه 14 آذار لن يفلح هذا الحراك بتحقيقه، بل سيتمّ استخدامه كوقود لضرب 14 آذار لا أكثر ولا أقلّ، فيما المطلوب من هذا الحراك أن يضغط على الطرفين من أجل إحياء الحياة السياسية من خلال خريطة طريق للتغيير ضمن المؤسسات وتفعيل أطر المحاسبة وتجديد النخَب وإعادة الاعتبار للملفات الحياتية وتوجيه رسالة إلى كل القوى السياسية أنّ هناك رأياً عاماً في لبنان ممنوع تجاهله.
الملاحظة الثالثة، النظام السوري بكلّ قوته وجبروته عجز عن إلغاء البعد الطائفي داخل المجتمع اللبناني، وبالتالي تصويب بعض الحراك على هذا الجانب خطأ فادح، لأنّ مراكز القوة داخل هذا المجتمع ما زالت طائفية بامتياز، ولذلك المدخل لتعزيز البعد المدني لا يكون عبر الاصطدام بالبعد الطائفي، بل من خلال الذهاب إلى ما أقرّه الطائف لجهة نظام المجلسين، أي المجلس المحرّر من القيد الطائفي، ومجلس الشيوخ، لأنه ليس المطلوب إلغاء الطوائف أو إلغاء المجتمع المدني، إنما التعايش تحت سقف واحد، وهو الدولة، ومن ضمن هدف واحد، وهو لبنان.
وفي كل هذا المشهد برزت إيجابيتان:
الإيجابية الأولى، إحياء قوى 14 آذار اجتماعاتها الدورية بعيداً عن الإعلام، هذه الاجتماعات التي تتطلب مواكبة من أمين عام 14 آذار الدكتور فارس سعيد بغية وضع خطة استنهاض لواقع 14 آذار تأخذ في الاعتبار البعد المطلبي في موازاة البعد الوطني، لأنّ الناس لم تعد تكتفي بعنوان الدفاع عن الشرعية والجمهورية، بل تريد من يحمل أيضاً لواء الدفاع عن حقها في العيش بكرامة وأمان وسلام.
الإيجابية الثانية، خروج تيار «المستقبل» عن صمته في بيان كتلته النيابية الأخير، كما خروجه من دائرة المُتهَّم إلى المُتهِّم، فيما هو مدعوّ إلى إجراء قراءة نقدية لكل المرحلة الممتدة من العام 1992 إلى اليوم على طريقة «الافتراء في كتاب الابراء» رداً على «الإبراء المستحيل»، لأنه لا يجوز تحميله وزر مرحلة كان النظام السوري هو الآمر الناهي فيها.