IMLebanon

الحراك الشعبي… “قطب مخفية” ووجع غير خفيّ

tol3it rihetkom

كتبت  آمنة منصور في صحيفة “الراي” الكويتية:

هل تكون النفايات هي القشة التي ستقصم ظهر النظام السياسي في لبنان، وتأخذ البلاد نحو فوضى كاملة بسقوط الحكومة التي تُعتبر آخر معاقل المؤسسات الدستورية في ظل الفراغ الرئاسي المزمن والتعطيل المتعمد لمجلس النواب؟

هذا السؤال لا تزال الإجابة عنه مفتوحة على كل الاحتمالات، ولا سيما بعدما تشعب المطلب الجامع بوجوب حل أزمة النفايات والذي نزل من أجله آلاف اللبنانيين إلى الشارع تحت شعار “طلعت ريحتكم”، إلى مروحة من المطالب تتراوح في سقفها بين إزالة النفايات وصولاً الى إسقاط النظام السياسي في لبنان، وبعدما اختلف أسلوب التعبير عن الاحتجاج من إطلاق الهتافات والتظاهر السلمي إلى ظهور ما اصطلح على تسميته “مندسين” أخرجوا التظاهرات عن عقالها واشتبكوا مع القوى الأمنية وخربوا الأملاك الخاصة والعامة.

ومنذ اسبوعين تقريباً تضبط بيروت “ساعتها” على مواعيد جلسات الحكومة بانتظار حل ينقذها من أزمة النفايات، وعلى توقيت التحركات والمسيرات والتظاهرات أملاً في أن تثمر حلاً وخوفاً من تكرار سيناريو الشغب والفوضى.

وإلى أن تنجلي ملابسات التحركات وغاياتها وما ستؤول إليه وسط الاصطفاف الجديد الذي ولد في لبنان بين مؤيد للحراك ومعارض له، وفي ضوء القراءات المتعددة حول خلفيات هذا الحِراك، أجرت “الراي” قراءة مع مختصين لما تشهده بيروت، متوقفة في علم اللسانيات عند تحليل شعارات حراك “طلعت ريحتكم”، وفي السياسة عند أهداف التظاهرات وأفقها.

في هذا الإطار، استهل الباحث في اللسانيات الكاتب نادر سراج قراءته بالإشارة إلى أن ملاحظاته أولية، عازياً ذلك إلى أنه “لا يمكن للباحث الجدي أن يعطي رأياً قاطعاً في تحرك شعبي وما صدر عنه من شعارات خلال أيام معدودة”.

ثم يدخل في تحليل علمي لما رفعه المحتجون من شعارات، فيقول: “هذه المرة منتجو الشعارات عبّروا عن صرخة ألم حقيقية. صحيح أن هذه الصرخة بدأت معيشية وتناولت جانباً بيئياً، لكننا لاحظنا وسمعنا وأبصرنا كيف أنها لاحقاً تفرّعت إلى مواضيع أخرى راوحت بين إسقاط الحكومة وتغيير النظام والكلام عن الفساد وفتْح ملفات معيشية أخرى”.

ويضيف: “نتساءل هنا، هذا الشعار الذي رُفع والرسالة التي تضمّنها لماذا وكيف وصل؟، وما الآلية المتبعة؟، وما المستوى اللغوي الذي اختاره منظمو هذه الحملة ومنتجو هذه الشعارات والأفراد الذين تلقوا الشعار وعدّلوه أو أدلوا بدلوهم في هذا المجال؟”.

ويشير إلى أن حملة “طلعت ريحتكم” التي دعت إلى هذا التحرك “حملت اسم شعار تردّد إعلامياً وشعبياً، حيث المفارقة والمصادفة أن الاسم الذي أطلقته على نفسها بات في ذاته (slogan) محكياً وعفوياً وبسيطاً (مستوى تعبيري بدائي لأنه يومي)، ناهل من المخزون الأخص للجماعة اللغوية أي للشباب”، متوقفاً عند مجموعة ملاحظات سريعة منها: “أن الشعار هو عبارة عن اسم المجموعة، وصيغة الشعار سلبية لتوصيف الآخر المتهَم، والمرسِل لم يذكر تفصيلاً مَن هو المعني بـ(كم)، ولكن كل المتلقين عرفوا مَن هو المعني لأنهم يملكون الشفيرة ذاتها، وقد نجح الشعار في أن يكون اسماً لمجموعة وفي الوقت نفسه عنواناً لحملة، لكن هذه الحملة كما سمع الجميع ورأوا تخطت الموضوع الأساسي وهو النفايات”.

ويوضح: “عندما يقول اللبناني أن (الريحة طلعت) أي انتشرت، فإن هذا الانتشار لم يكن له علاقة بحاسة الشم فقط، بل تمددت آثاره وبات له علاقة بحاسة الشم الوطنية والسياسية، ففي المنطوق اللبناني فإن الرائحة لا تتصل بالنفايات، ولكن لها أيضاً دلالات معنوية تتصل بكل ما هو مشبوه، واللاوعي الجماعي اللبناني يملك لهذا التعبير بالذات مجموعة دلالات، ولذا فإن هذا التعبير كما نقول نحن اللسانيين حمّال أوجه”.

وإذ يتوقف عند اللغة التي كُتب فيها الشعار، يلاحظ أن “هناك شعاراً فصيحاً أُسقط علينا إسقاطاً وهو (الشعب يريد)، مذكراً بأن هذا الشعار مصري وتونسي ونتاج ثورات ما سمي بالربيع العربي”.

ويقول في هذا الإطار: “منتجو ومطلقو ومرددو هذا الشعار بالذات حاولوا أن يتباهوا بنتائج الثورات العربية ظناً منهم أن هذه الشعارات تكفي لإسقاط نظام وتغييره. استعاروا هذا الشعار من شعارات الربيع العربي ليصلوا إلى نتيجة ما ظناً منهم أنهم قادرون بالكلام اللفظي واللافتة أن (يقلبوا) النظام بغض النظر عن النتيجة”.

ويضيف: “شعار (طلعت ريحتكم) ذكّرني بشعار (فلّ) الذي أُطلق في العام 2005، والذي يُعتبر شعاراً لبنانياً عامياً وموغلاً في العامية اللبنانية”، لافتاً إلى أنه “بغض النظر عن ماهية الشعار أكان منطوقاً أم مكتوباً، لاحظنا أن الشعارات الغرافيتية التي رُسمت على الجدار الذي وُضع للفصل بين السرايا الحكومية وساحة رياض الصلح ثم أزيلت هي أجمل شيء بالإمكان الاستخراج منه، لأن الرسم المعبّر تَوافَق وتَرافَق مع التعبير ونوعية الكتابة ومضمون الفكرة”.

سراج الذي يرى أن “منتجي الشعار ذهبوا إلى الشيفرة التي يرتاحون إليها، وهي الكلام الدارج والمحكي”، يشير إلى أنه “يمكن القول إلى الآن أن هذا الشعار سيحقق غاية ولو واحدة وهي أن كل أصحاب الوجع اللبناني تحرّكوا وخرجوا من بيوتهم وتركوا حزب (الكنبة) كما يسميه المصريون”.

وإذ يذكّر بأن “هذه التظاهرات غير سياسية موجّهة ومحضّرة مسبقاً بشعاراتها وطريقة نظامها ونتائجها المتوخاة”، يعتبر أن “العفوية وسَمت منظمي هذا الحراك وشعاراتهم ـ حتى أننا لاحظنا تردداً وتأخراً في بياناتهم ـ وهو ما انعكس في مضامين الشعارات”، لافتاً إلى “العبارات النابية التي قيلت عن زعماء وعن الدولة اللبنانية، وهذا الأمر لا علاقة له بروحية التظاهرة أو الحراك الشعبي الأساسي”.

ويخلص إلى أن “هناك أناساً دخلوا على الخط، وكل شخص اعتبر أنه يعبّر عن نفسه، حيث لاحظنا تقاطر العديد من الناس إلى الساحة كي يُظهِروا صورتهم على التلفزيون ويعطوا رأيهم بغض النظر عن كيفية تلقي الآخرين لما يقولونه، حيث كانت هناك مساحة تعبيرية واسعة”، مضيفاً: “ربما يكون من إيجابية هذا الحراك أننا تعرفنا إلى أسماء جديدة لم تكن معروفة، وشاهدنا أناساً عاديين يعبّرون عن وجهات نظرهم، ولكن سمعنا أيضاً شتائم وكلمات نابية لا تقال عادة بحق مسؤولين وزعماء حاليين وراحلين، ففي مصر كان هناك ما يسمى بالفلول وفي سورية الشبيحة ولم توجه شعارات نابية بل شعارات سياسية”.

ويختم سراج بالإشارة إلى أن “الحيوية والتنوع والتعدد والجنوح إلى الكلام المبتذل والبذيء والسوقي مرده إلى أن الساحة مفتوحة”.

وفي مزيج من القراءة الدستورية ـ الحقوقية للتحركات، يذكّر الدكتور أنطوان مسّرة عضو المجلس الدستوري في حديث لـ “الراي”، بأن “ما يميّز المجتمع المدني هو 3 عناصر أولاً أن ينطلق من شؤون الناس الحياتية اليومية، وثانياً أن ينظر إلى الأمور من ناحية المصلحة العامة والشأن العام وليس من ناحية علاقات النفوذ والسلطة، وثالثاً هو مفهوم القانون والمؤسسات”، ليلفت إلى أن”العنصر الثالث هو الذي يجب التركيز عليه في كل تحرك للمجتمع المدني”، مضيفاً: “في الحالة الحاضرة، وكي يكون تحرك المجتمع المدني بمَدَنِيّة يجب أن يحصر مطالبه. فبشكل عام إن إكثار المطالب يفشلها”.

ويشير إلى أن “الرؤية المؤسساتية لا بد أن تكون واضحة في هذا الموضوع”، مؤكداً أن “شعار الشعب يريد إسقاط النظام أُطلق في مصر، ولا ينطبق على الوضع اللبناني الذي أظهر أن النظام اللبناني أقوى من نظام سورية وأكثر صموداً من نظاميْ ليبيا والعراق”.

ويضيف:”إذا كان مَن يدير هذا النظام فيه بعض الفساد، فهذا موضوع مختلف، يجب إذاً توضيح وتصويب الأمور وتركيزها وإلا سيندسّ مندسون على هذا التحرك”.

يتابع: “هناك مطلبان ملحان، وأنا لا أنتقد هذا التحرك، بل على العكس هذه حركة شعبية، لكن لا بد أن يكون التحرك المدني مدنياً وأن يكون مركزاً على نقطة واحدة فقط هي معالجة مسألة النفايات، ثم الانتقال إلى نقطة أخرى هي انتخاب رئيس للجمهورية، فانتخاب رئيس بحد ذاته يجعل الحكومة مستقيلة ويفتح المجال لتأليف حكومة أخرى تنظم انتخابات نيابية”.

وإذ يذكّر بأن “المجتمع المدني هو بالأساس مجتمع قانون ومؤسسات”، يسأل:”كيف يُكافح الفساد؟ بالفوضى أم من خلال القانون ودعم المؤسسات؟”.

ويضيف:”في رأيي الوعي السياسي على المستوى العالمي هو بدرجة دنيا جداً جداً نتيجة الإعلام المتلفز، فالإعلام المتلفز يسعى إلى المشاكسة وعرض مواقف دون إعلام الناس بشكل دقيق”، محذراً من أن “هناك خطراً كبيراً على وعي المواطنين، فالمواطن لديه وهم أنه عارف ومدرك، وعلينا ألا نثق كثيراً بوسائل التواصل الاجتماعي لأنها تعمم أقاويل وشائعات”.

ويختم: “الإعلام المكتوب في تقدم كبير، لكن الإعلام المتلفز هو تربية مسائية يومية على الاصطفاف وعلى المواقف والتصادم، وهذه ظاهرة عالمية لا تقتصر على لبنان والدول العربية بل باتت تهدد الديموقراطيات العريقة إذا لم يُعِد الإعلام النظر بشكل جدي في دوره في الوقت الحاضر لتوعية المواطن بشكل فعلي والعودة إلى الإعلام”.

أما في القراءة السياسية للتحركات على الأرض، ووسط ما يوصف بأنه تحرك مدني عفوي وما يُحكى عن أهداف مبيتة تسعى للوصول إلى تحقيقها جهات سياسية تحت شعار مطلبي جامع، يقول المحلل السياسي سامي نادر أن “هناك واقعين على الأرض، واقع أن ما يجري هو تعبير شعبي صادق يريد إزالة النفايات و(قلبه ملآن) من الفساد المستشري ومن فشل الدولة الكامل ويعبّر عن قرفه من كل الأحزاب السياسية، أما الواقع الثاني فهو أن بعض الأشخاص المندسين أخذوا التظاهرات في مسار عنفي”، لافتاً في ما يتعلق بالأهداف إلى أن هناك في هذا الإطار قراءات عدة.

نادر ورداً على سؤال عما إذا كان هذا الحراك عفوياً أم موجهاً من فريق سياسي ضد آخر، يجيب: “الاثنان معاً. هناك بالتأكيد مزاج شعبي رافض للفساد ويريد رفع النفايات عن الطرق، وبالتالي ثمة حراك شعبي صادق وتعبير ديموقراطي، وهناك أيضاً أحزاب سياسية تحاول أن تركب الموجة بعدما فشلت في التعبئة منذ أسبوعين أو ثلاثة. وهناك ربما أفرقاء آخرون متضررون مما رست عليه المناقصات في ملف النفايات (قبل إلغائها) بعدما بقيت هي خارجها، وربما هناك من يحاول أن يوجه رسالة إلى الخارج مفادها أنه بالإمكان في أي وقت زعزعة الاستقرار في لبنان وأنه ممسك بهذه الورقة على طاولة المفاوضات”، ويختصر الأمر بأن “هناك واقعاً شعبياً رافضاً دخلت عليه عدة أجندات، وهذا الأمر دائماً ما يحصل في السياسة”.

ويوضح أن المسار الذي حُرف التحرك إليه “لم يصل إلى مستوى 7 مايو 2008 (العملية العسكرية لحزب الله في بيروت والجبل) إلى الآن، فهذا الأمر لم يتضح بعد”، متداركاً: “لكن ما رأيته من عدد المندسين والشعارات، أن الامر ينطوي على رسالة بأنه من الممكن حدوث 7 مايو جديد على خلفية أيضاً وجود صراع بين الأفرقاء الذين حاولوا ركوب الموجة”. ويقول: “بات من الواضح أن هناك عناصر من حركة (أمل) نزلوا إلى الشارع، ومن الواضح وجود تصادم في الشعارات بين حركة (أمل) و(التيار الوطني الحر)، ومن الممكن أن تكون هناك رسالة يتم توجيهها بأن الاستقرار في لبنان هزيل جداً. وفي رأيي ان الأمور ما تزال مفتوحة، وصندوق البريد ما زال مفتوحاً”.

وعن مؤشر تَحوُّل التظاهرة من المطالبة بإزالة النفايات إلى إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات نيابية قبل الرئاسية، يرى نادر في ذلك “محاولة لاستعارة بعض الشعارات العونية إما لوضع (التيار الحر) في الواجهة وفي مواجهة مع القوى الأمنية والسنّة أو محاولة لأخذ الموجة الشعبية في غير الأهداف التي نزلت من أجلها”، مضيفاً: “ما أعرفه هو أن الناس نزلوا إلى الشارع، وأنا نزلتُ أيضاً من أجل رفع النفايات، والمسألة لا تحتاج في الوقت الحاضر لا إلى ثورة ولا لإسقاط نظام، على العكس أعتقد أن ليس هناك لبناني يريد إسقاط النظام بل هناك لبناني يريد بناء النظام وبناء دولة، فنحن لسنا في مصر وما من حكم في لبنان، فأي نظام يريدون إسقاطه؟”.