في حين عززت السياسات الإقتصادية اللبنانية، تاريخياً، من مكانة القطاع المصرفي، من السرية المصرفية، إلى صلابة السيطرة على الاستثمارات بعيد انتهاء الحرب، لم يتهاون هذا القطاع في استغلال الجانب الاقتصادي لتحقيق غايات سياسية. والسلاح الاقتصادي الذي يتغنى لبنان به منذ ستينيات القرن الماضي، غدا في نجاحه المالي أقوى سلطاناً من الدولة وقرارتها.
ربط المشاكل الإنمائية والمعيشية، وكذلك الفشل الواضح في تأمين الخدمات العامة، بالعمل المصرفي في توليفته اللبنانية يطرح العديد من الأسئلة. ما هي أسباب تطوره سنوياً في موازاة تراجع اقتصادي واضح للدولة. يستفيد الأستاذ والباحث الاقتصادي في “الجامعة الأميركية”، جاد شعبان، من المتغيرات الآنية كوضوح مشهد الفشل الحكومي والحراك الحالي ليعرض لمحة عن دراسته المتعلقة بسيطرة الطاقم السياسي على القطاع المصرفي.
تنفرد الدولة اللبنانية عن الدول ذات الدين العام في اعتمادها المصارف كممول لها وبالتالي كمدين لمشاريعها. فعلى عكس معظم الدول التي تلجأ الى الاستدانة من المؤسسات الدولية كالبنك الدولي، او ارتكازها على مؤمتمرات المنح الدولية، ترتمي الدولة اللبناني في أحضان المصارف التجارية “الوطنية”.
دائرة السيطرة على الاقتصاد اللبناني سرعان ما تضيق اكثر، من حدود القطاع المصرفي باكمله الى عدد محدد من المصارف، وصولا الى رجال الاعمال الذين يمتلكون هذه المصارف. يطرح شعبان في دراسته هذه، محاولةً للوصول الى الأسماء السياسية في إطار “الدائرة المصرفية الصغيرة”، مثبتاً الإرتباط المالي- السياسي، وباحثاُ في أسباب فشل تمويل الدولة سنوياً في رفع المستوى الاقتصادي.
99% من الموجودات المصرفية يتحكم بها 20 مصرفاً من أصل 54 مصرفاً فاعلاً، ومجرد النظر الى الارقام يجعل البحث في تركيبة نسب الملكية في هذه البنوك أمراً مريباً. ويعتمد شعبان في دراسته على مراحل متلاحقة في البحث، من نسب العائلات السياسية في الملكية الى مدى استفادتها من سنوات سلطتها على أرباح المصارف. وهو الأمر الذي يفسر الى حد ما سلة القرارات التي تتخذها الحكومة في هذه السنوات، وتداعياتها على مجموع الدين العام.
يبرهن شعبان المقولة الشعبوية المتعلقة بسيطرة السياسيين على البنوك، فـ 43% من المصارف “قريبة” من عائلات سياسية، ان كان عبر المالكين او مجالس الادارات او رؤسائها. في حين تعتلي عائلة الحريري الصدارة بـ2.5 مليار دولار من القطاع، تليها عائلة القصار وابرز اسمائها الوزير السابق عدنان القصار الذي يمتلك 1.2 مليار من أصل 2.4 للعائلة.
لم يكن خفياً هذا الدور السياسي وارتباطه بارتفاع معدل الدين العام، وليس غريباً أيضاً مقدار افادة هؤلاء عبر سنوات حكمههم، على ما تشير احدى الرسوم التوضيحية التي عرضها شعبان. فارتفاع نسبة ملكية السياسيين للمصارف تساهم في زيادة الديون المتعثرة على الخزينة. يضاف الى ذلك فترات الحكم التي يستفيدون منها، هنا لا يعلى على سطوة عائلة الحريري. فالمالكون الوحيدون لبنك MED حققوا أرباحاً توازي 108 ملايين دولار في فترة وجود الرئيس سعد الحريري في سدة الحكم. ناهيك عن استمرارية وجودهم الوزاري الدائم، والخلاصة أن MED يمتلك نسبة 27% من الدين العام.
يتخطى الأمر مبدأ الإثراء غير المشروع الى تحدي الحد الأدنى من مفهوم “تضارب المصالح”. والمعادلة التي تطرح في هذا الاطار ترسم “سلسلة ذهبية” للفساد. تصرف الدولة على الدين العام نحو 36% من ميزانيتها، ويعود ذلك بالربح على المصارف التي بدورها تموّل مشاريع انمائية من خلال الحكومة تنتهي إلى “لاشيئ”، بغياب الخدمات العامة وتدهور الاقتصاد الذي يعود ليفرض الاستدانة مجدداً.
على أن بداية هذه السياسة هي ما يمكن اعتبارها الأهم للدراسة. يرى الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي أن المعضلة لا تكمن في حد ذاتها في سيطرة السياسيين على المصارف في الوقت الحالي. وهذا ليس تبريراً لاستفادتهم من الخطط الاقتصادية الفاشلة للحكومة، لكن المسؤولية تقع بمجملها على خطوات مصرف لبنان، في تثبيت معادلة “الاقتصاد في خدمة الليرة لا العكس”. هذه الخطوات هي، بحسب يشوعي، تنفيذ للخطة الاقتصادية التي اتى بها الرئيس رفيق الحريري بعيد الحرب، واستكمال لها. وهي خطة لا تعارضها الاطراف السياسية بواقع الحال. أما في ما يخص الدين العام، فالمتضرر الوحيد هو المواطن، وفق معاردلة “الضرائب مقابل لا خدمات”.
لا شك في أنّ المصرف المركزي مسؤول، إلا أن أن ثمة مسسبات أخرى للعجز. ففي المقابل يلخص الوزير السابق شربل نحاس دور المصرف في ظل العلاقة غير الطبيعية بينه وبين وزارة المال. بحسب نحاس، فإن الوزارة الموكلة بخزينة الدولة لا تقوم بابسط ادوارها في طرح الموازنة السنوية، وبالتالي تتيح تفرد حاكم المصرف بالرقابة والسيطرة على سياسة الاستدانة.
في المحصلة يعود الخبيران الى الأصل نفسه، الطقم السياسي الذي باستمرار وجوده يلغي أي شكل او تصور للحل، سواء أكان عبر سياسة مصرف لبنان، أو السيطرة على المصارف او تغييب دور وزارة المال.
منطق الابتزاز السياسي يطغى مالياً أكثر: التمويل مقابل المشاريع هي الرسالة الواضحة لجمعية المصارف، والسطوة آخذة بالتصلب اكثر. وفي دولة “اللاطبيعي”، لا يمكن إلا استغراب الارباح الخيالية لقطاع هو جزء من النظام الاقتصادي المترهل. وكأن خدمة الليرة التي بدأت في اوائل التسعينات، ألقت الشعب والفئات الاقتصادية في مسار خدمة المصارف. القطاع الذي ابتلع الدولة ولا يزال يمتلكها، ينفرد بحجم ارباح اذا ما قورن بالناتج المحلي فأنه يتخطى ارقام دول كبريطانيا وفرنسا بأربعة اضعاف، بحسب نحاس.