العيون شاخصة نحو منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. هناك سيقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد غد للمرة الأولى منذ ثمانية أعوام، للإلقاء خطابه المنتظر الذي سيبقى لحينه مثار تكهنات في ضوء التعزيزات العسكرية الأخيرة لروسيا في الميدان السوري. والسؤال الذي يشغل بال الجميع، ما هي بنود الإستراتيجية الروسية الجديدة ومعالمها؟ إستراتيجية، جوهرها المبادرة التي سبق وطرحها بوتين وتقضي بتشكيل جبهة مُوحدة لمكافحة الإرهاب، على حد تعبير السفير الروسي في لبنان ألكسندر زاسبكين، الذي يُبدي توجّسه في الوقت عينه من صعوبة المرحلة التي تنتظر منطقة الشرق الأوسط.يرسم زاسبكين بدبلوماسيته المُعتادة سقف ما ينبغي الإفصاح عنه، إذ من «السابق لأوانه كشف مضمون خطاب الرئيس بوتين». ويقول في مقابلة خاصة مع «الجمهورية» في مقرّ السفارة الروسية في بيروت: «من دون شك سيكون خطاباً مهماً، لكن يجب أن ننتظر لنرى مضمونه».
ولا يكشف إلّا النذر القليل من إستراتيجية بلاده المقبلة، مُكتفياً بالتشديد على أنّ مبادرة بوتين بتشكيل جبهة عريضة لمكافحة الإرهاب وسبل تطبيقها، ستكون «جوهر» خطاب الرئيس الروسي.
ويقول زاسبكين: «إنّ تشكيل الجبهة المُوحّدة ليست مكسباً لنا، بل إقتراح يصبّ في مصلحة الجميع، فجوهرها التعامل البنّاء بين جميع الأطراف وضرورة التنسيق مع السلطات السورية».ويتابع: «إذا كنّا واقعيين يجب توحيد الجهود في وجه الخطر الأساسي «داعش» وأمثاله.
نحن نريد أن يلعب كل من هو قادر على محاربة الإرهاب دوره، ليس فقط الإيراني بل الأميركي، وندعو كل أعضاء التحالف الدولي إلى التعاون مع النظام، ونريد مشاركة تركيا والسعودية أيضاً في هذه الجبهة».
ويشير إلى أنّ الحوار مع السعودية «سيتواصل»، ويأمل أن تسهم زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موسكو اليوم في «التغلّب على الخلاف» بشأن الموضوع السوري.
ويقول: «لذلك نحن نجري الحوار، فإذا استطعنا تحقيق هدف تشكيل هذه الجبهة، سيكون أمراً جيداً، والدبلوماسي مهمته العمل لتحقيق الهدف. هل ننجح أو لا ؟ لا شيء مضموناً»، مُشدداً على أنّ الدور الروسي هدفه إعادة التوازن على الساحة الدولية وعدم إثارة الفتن.
ومن يعرف جيداً زاسبكين – العائد لتوِّه من موسكو، يستشفّ جرعة تفاؤل وثقة أكبر بموقف بلاده الذي لم يتزحزح منذ إندلاع الأزمة السورية، ولا سيما بعد التعزيزات الروسية الأخيرة في سوريا، ومع إقتراب الأميركيين أكثر من الروس لجهة السير بضرورة مكافحة «داعش» وأخواتها وضمان الإنتقال السياسي في سوريا بشكل متواز.
ويقول زاسبكين: «إنّ هناك تنشيطاً للنهج الروسي الذي لا يزال نفسه، ولا سيما لجهة تكثيف الجهود لمكافحة الإرهاب، وتعزيز مبادرة الرئيس بوتين، وروسيا تقوم بواجبها بتأييد سوريا وجيشها النظامي».
ويتابع: «من حيث المبدأ هناك بوادر إيجابية في الموقف الأميركي، لا أعرف ماذا نستطيع أن نحقّق، والى أي مدى يمكن أن يمتدّ هذا التعاون، كلها أسئلة مفتوحة والأيام المقبلة وحدها كفيلة بالإجابة عنها، وتحديد أفق هذا التعاون الذي نأمل أن يكون أوسع مما كان عليه في الماضي».
ولكن على رغم رؤيته مؤشرات إيجابية في ردّ الفعل الأميركي، يعتبر زاسبكين أنّ تصريحات وزير الخارجية الأميركية جون كيري بشأن مصير الرئيس السوري بشار الأسد لا تنسجم مع الموقف الروسي.
ويقول:»الأميركيون يتحدثون بشكل مستمر عن هذا الموضوع، نأمل أن لا يعرقل ذلك تعاوننا في سبيل التسوية السياسية. مسألة قيادة سوريا يُقررها السوريون أنفسهم».
وإذ ينفي علمه بوجود غرفة عمليات مشتركة روسية ـ سورية ـ إيرانية وأميركية مشتركة ضدّ تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة»، يشير إلى أنّ التنسيق الروسي يقتصر على الإتفاق مع الحكومة السورية.
وعمّا إذا كانت التعزيزات الروسية تمّت بموافقة السعوديين والأميركيين، وعدم صدور موقف سعودي رسمي مناهض، يوضح زاسبكين أنّ القرار الروسي اتُخِذ وهو مُوجّه ضد الإرهاب، وبعدها جرى الإتصال من الجانب الأميركي.
ويقول: «من الغريب أن نجد موقفاً سلبياً من تعزيزات تصبّ في مصلحة الجميع. لدينا قناعة بأنّ الطرف الأساسي الذي يحارب التنظيمات المتطرفة هو الجيش السوري. وندعو إلى الإعتراف بهذه الحقيقة خلال فترة النزاع، إذا كانوا جدّيين في القضاء على الإرهاب، عليهم التنسيق مع النظام السوري كما يجري في العراق».
في الوقت عينه، يرفض زاسبكين إتهام النظام السوري بقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة. ويقول: «هذا موضوع خلاف يجب بحثه في منظمة الأمم المتحدة بصورة شفافة وموضوعية، وأن لا يُستخدم لعرقلة التسوية السلمية».
تسوية لا يرى زاسبكين أنّ بلاده تُعقّدها من خلال تحركاتها الأخيرة في سوريا. ويُذكّر بأنّه خلال فترة النزاع هناك «دول في العالم العربي حمّلت النظام السوري المسؤولية، نحن لسنا مع هذه الإتهامات، هذا موقف غير متوازن وغير صحيح. كان يُفترض بجميع الدول الضغط على المعارضة السورية لإجراء الحوار للوصول إلى تسوية، وقطع الطريق أمام تمويل وتسليح الجماعات المسلحة التي تحارب الجيش النظامي السوري».
ويقول: «النظام السوري يدافع عن نفسه ونحن نعتبره شرعياً. ونعتقد أنّ من يستمر في محاولات إسقاط النظام يريد تدمير سوريا كدولة. ونحن نرى طريقاً واحداً فقط وهو بتوحيد الجهود ضد الإرهاب، من قبل جميع القوى سواء كانت نظاماً أو معارضة لتسهيل العملية السياسية».
ويوضح أنّ «الأميركيين الذين قالوا في البداية إنّ مساعدة روسيا للجيش السوري تُعرقل الحل السياسي، يتحدثون الآن عن شيء آخر». ويستغرب زاسبكين الحديث عن إستشعار روسيا الحل القريب في سوريا وسعيها إلى حجز موقعها في التسوية المقبلة.
ويقول: «هذه الأقاويل غريبة، نحن في الأصل ناشطون في التسوية السياسية، ليس بهدف أن نكسب شيئاً، ومقتنعون بأنّه إذا استولى الإرهابيون على الحكم سيُشكّل ذلك كارثة للمنطقة ككل، ولبنان على وجه الخصوص».
حرية التدخّل البري
ويُشدد على أنّ لروسيا الحرية في التدخّل البري لمساعدة الحكومة السورية. ويقول: «نحن أحرار في التصرف، كل شيء يتوقف على الإتفاق بين روسيا وسوريا وهو رهن الظروف والمعطيات»، رافضاً التطرّق لإمكان غرق بلاده في المستنقع السوري على غرار ورطة الإتحاد السوفياتي في أفغانستان، مكتفياً بالقول: «إنّ هذا المثال لا يمكن إستخدامه لهذه الحالة».
وإذ لا يرى داعياً للرد على تهديد رئيس هيئة أركان الجيش السوري الحرّ العقيد مصطفى فرحات بتحويل سوريا إلى مقبرة للروس، يقول:»ما نتمناه من المجموعات المسلحة في الأراضي السورية أن يختاروا في ما إذا كانوا يعتبرون أنفسهم وطنيين، الإنضمام إلى الجبهة التي اقترحناها».
العلاقة مع إيران
ويستغرب الحديث عن بعض المعلومات عن توعّد عناصر حزب الله بممارسة الجهاد ضد القوات الروسية في سوريا، وعن تضارُب محتمل لمصالح روسيا مع إيران على المسرح السوري.
ويقول: «هذه أشياء غريبة، علاقتنا مع إيران جيدة، نحن نريد أن ننسّق المواقف على مستوى أوسع ليشمل عدداً من الأطراف الإقليمية بما فيها الدول العربية. لكن تجمعنا وإيران مصالح مشتركة في المجالات السياسية والإقتصادية، ونحن نعترف بالدور الإيراني في المنطقة، ونريده أن يكون إيجابياً ويجب تنقية أجواء المنافسة في المنطقة وتصحيح العلاقات».
وفي ملف اللاجئين السوريين وإمكان فتح روسيا أبوابها لاستقبال عدد منهم، يرى زاسبكين أنّ بلاده إستقبلت ملايين اللاجئين من أوكرانيا وقامت بواجبها الإنساني تجاههم، في وقت يريد السوريون التوجّه إلى أوروبا وليس روسيا.
ويعتبر أنّ زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في جزء منها هي نتيجة لتراجُع النفوذ الأميركي وتعاظم المكانة الإقليمية لروسيا كما تشير بعض التحليلات، ويبقى هدف نتنياهو «أن يتأكد من تحركاتنا ونحن لدينا نهج شفّاف في تحديد أهدافنا».
يمنياً، يُطالب زاسبكين بإلحاح بوقف العنف والحرب والإنتقال الفوري الى الحوار والتسوية السياسية. ويقول: «هذا جوهر الموقف الروسي، ونجري إتصالات مع الأطراف المعنية ونقوم بواجبنا قدر الإمكان».
ويتابع السفير الروسي مُبدياً قلقه من صعوبة المرحلة: «نحن أمام مفترق طرق، الوضع حساس جداً، وقد يستمر تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط، وليس أمامنا طريق آخر سوى التغلّب على الخلافات لمصلحة البشرية. يحبون النظام السوري أم لا، هناك أشياء أهمّ من المصالح الذاتية، ويجب أن نكون على مستوى المسؤولية».
ويُذكّر بأنّ لروسيا رؤية أخرى في العلاقات الدولية. ويقول: «نحن ندافع عن القضايا العادلة في كل مكان وهكذا نرى دورنا، ولا نتطلّع الى صراع على النفوذ. نسعى الى تسوية النزاعات في الشرق الأوسط وتحقيق الإستقرار ونرفض إعادة رسم خريطة المنطقة وتقسيمها».
ويتابع: «نحن ندعم دولاً ذات سيادة وفق ما عليه الوضع الآن، والتمزيق الطائفي خطر جداً ويجب العودة الى سوريا كدولة علمانية، وضمان الحقوق المتساوية للجميع. فالكانتونات الطائفية هي خطر على المنطقة برمتها وليس سوريا فقط».
الحراك والحوار
في الشأن اللبناني، ينظر زاسبكين أيضاً بعيون بلاده إلى الحراك المدني، التي لم تتوجّس من ظاهرة الثورات الملونة التي سبق وشهدتها بعض دول أوروبا الشرقية خلال العشر سنوات الماضية ومن «الربيع العربي» في الشرق الأوسط.
ويقول: «لا أرى شيئاً متميّزاً في الحراك المدني وهو إحتجاج على المشاكل الداخلية وللمطالبة بتصحيح الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية. في المبدأ هذا شأن داخلي، لكن تجارب عدد كبير من الدول أظهرت كيف استُخدم الحراك الشعبي من قبل أطراف خارجية هدفها زعزعة الأوضاع».
ويتابع: «لا شك أنّ غالبية المشاركين في الحراك هم شرفاء يريدون الإصلاح والخير لبلدهم، لكن بعض عناصر هذه الحركة مُخترقة وتابعت ندوات في أميركا، وتنفّذ برنامجاً معيّناً كما حدث في ساحة الميدان في أوكرانيا، ونتمنى أن يكون المشاركون حذرين من هذه العناصر المدفوعة من أطراف خارجية، وهدفها إشعال الفتنة».
توازياً، يأمل سفير روسيا أن يكون الحوار الذي أطلقه رئيس مجلس النواب نبيه بري ناجحاً. ويقول: «سواء كانت نتائج الحوار كبيرة أو متواضعة نسبياً، من المهم النظر إليه من زاوية إيجابية وليس كأنّه تحدٍّ، والتهويل بأنّه إذا لم يكتب له النجاح، الفتنة واقعة لا محالة».
ويأمل وجود قناعة داخلية بأنّه يمكن إنتخاب رئيس بغض النظر عما يجري في المنطقة، ولكن كلنا يعلم أنّ الربط بين الأوضاع الإقليمية ولبنان ليس بأمر جديد.
وحتى الساعة لا يبدو أنّ ظروف التسوية اللبنانية قد نضجت، في نظر زاسبكين، «فخلال هذه الفترة لم يتغير أو يتبلور شيء، ولم يحدث أي جديد نوعي ليؤثر إيجابياً، كون القضايا الأساسية في المنطقة لم تُحلّ بعد»، وموقف روسيا لا يزال على حاله، ولا تأييد لخيار مرشح على حساب الآخر.