كتب راجح الخوري في “الشرق الأوسط”: يتراجع الأميركيون إلى الصفوف الخلفية في الساحة السورية، في حين يقتحم فلاديمير بوتين الميدان عسكريًا بكثير من التحدي، ولكأنه يقول لباراك أوباما: لقد فشلتم في قتال «داعش».. تنحّوا جانبًا الأمر لي الآن.
ليست في هذا أي مبالغة، فقبل أسبوعين طرحت وزارة الخارجية الروسية السؤال: ما هي النتائج التي حصلنا عليها بعدما أرسل الائتلاف الدولي
قوات لمحاربة الإرهابيين، ثم بدا وكأنه مغرم فقط بإحصاء عدد الغارات الجوية التي يشنها على مواقع «داعش»؟
في الواقع لم يكن هذا السؤال غريبًا، ففي أميركا تطرح منذ آب من العام الماضي تساؤلات مشابهة طالما رافقت الغموض المتزايد في استراتيجية الإدارة الأميركية حيال الوضع في سوريا والعراق!
في هذا السياق، لم ينسَ أحد قول السيناتور جون ماكين إن استراتيجية أوباما مكتوبة بـ«الحبر الممحو»، ثم إعلانه أمام لجنة الدفاع والشؤون الخارجية في الكونغرس أن المقاتلات الأميركية التي تحلّق فوق مواقع «داعش» في العراق وسوريا غالبًا ما تعود من دون أن تلقي حمولتها من القنابل، وأن الأميركيين يمنعون شركاءهم في التحالف الدولي من قصف هذه الأهداف أحيانًا!
وهكذا عندما أعلن البنتاغون بداية الأسبوع أن روسيا نشرت في مطار حميميم قرب اللاذقية 28 طائرة مقاتلة بعيدة المدى قاذفة للقنابل، إضافة إلى عدد من طائرات الهليكوبتر الهجومية، وأن جسر الإمداد العسكري لقوات النظام يتصاعد كمًا ونوعًا، بدا وكأن الأميركيين فقدوا المبادرة على المسرح السوري، وأنهم باتوا يلهثون وراء الروس الذين قرروا إدارة الحرب ضد الإرهابيين على طريقتهم بعدما عجز الأميركيون عن تحقيق نتائج ملموسة رغم قولهم إنهم أوقفوا تقدم «داعش»!
لا يتحدث بوتين عن دور روسي متفرّد في هذه الحرب، فلقد سعى أولاً إلى تشكيل تحالف إقليمي يضم إيران والسعودية والأردن والنظام السوري، وهو أمر مستحيل، أولاً على خلفية تمسك موسكو ببقاء بشار الأسد وإفشال كل سعي إلى عملية انتقال سياسي ترسي حلاً سياسيًا ينهي مسلسل المذابح في سوريا، وثانيًا على خلفية التعارض الجذري مع سياسة طهران المؤيدة للنظام السوري، والتي تقاتل معه، وكذلك مع تدخلاتها وسياسة العربدة التي تقوم بها في المنطقة.
الآن تقول موسكو إن «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب» الذي تقوده أميركا لم ينجح، وإن التفاهم بين واشنطن وأنقرة على فتح القواعد التركية أمام الطيران الأميركي وعلى انضمام تركيا إلى الحرب ضد «داعش» لم يغيّر شيئًا من وتيرة القتال البطيئة ضد التنظيم، ولهذا قرر بوتين أن يقتحم الساحة في ظل تحالف يضم روسيا وإيران والعراق والنظام السوري، وهو ما أيقظ كثيرًا من الهواجس العسكرية في واشنطن التي تخشى من حصول تصادم بين مقاتلات البلدين، خصوصًا أن الازدحام الجوي إلى تصاعد، حيث تحلق في الأجواء السورية مقاتلات أميركية وروسية وسورية وكذلك بريطانية وفرنسية!
البيت الأبيض كرر في الأسبوعين الماضيين القول إن واشنطن تريد من روسيا «المشاركة البنّاءة» مع التحالف الدولي بدلاً من أن تزيد من وجودها العسكري في سوريا، لكن المحادثات الهاتفية التي تكررت ثلاث مرات في عشرة أيام بين جون كيري وسيرغي لافروف لم تكن كافية على ما يبدو لجلاء الصورة العسكرية.
لهذا جاء الاتصال الهاتفي الأول منذ 13 شهرًا، بين وزيري دفاع البلدين أشتون كارتر وسيرغي شويغر، وأعلنت واشنطن أن حوار الوزيرين الذي استمر ساعة تقريبًا ركّز على سبل إبقاء جيشيهما بعيدين لتفادي أي صدام عرضي بينهما في الفضاء السوري، في حين ذكرت تقارير دبلوماسية أن الروس والأميركيين أنهوا مشاورات على هامش التدفق العسكري الروسي إلى سوريا، أدّت إلى التوافق على إنشاء غرفة عمليات مشتركة في سوريا تضم ضباطًا من هيئات الأركان في البلدين، وأنه ليس من المستبعد أن ينضمّ إليها ضباط بريطانيون وفرنسيون!
على أي حال فإن معالم الارتباك الأميركي حيال الهجمة الروسية على الساحة السورية كثيرة مضحكة – مبكية إذا جاز القول، ذلك أن جون كيري أعلن صراحة ما يوحي بأن واشنطن تلهث فعلاً وراء موسكو: «إن الولايات المتحدة تسعى للعثور على أرضية مشتركة مع روسيا. الجميع استولت عليهم العجلة. كنا كذلك طوال الوقت، غير أن مستويات الهجرة والدمار المستمر وخطر توسيع رقعة الصراع عبر خطوات أحادية الجانب تضع ثقلاً كبيرًا على الدبلوماسية في هذه اللحظة»!
الصورة الأكثر ارتباكًا وربما عيبًا تتضح من خلال المقارنة بين تدفق الطائرات الروسية التي تهبط في سوريا ناقلة الخبراء والمدربين والصواريخ، وبين شهادة الجنرال لويد أوستن قائد القيادة المركزية الأميركية المستقيل أمام الكونغرس نهاية الأسبوع الماضي، حيث قال إن أربعة أو خمسة من مقاتلي المعارضة السورية الذين دربتهم أميركا لا يزالون يقاتلون ضد الإرهابيين، ويأتي هذا بعدما كانت «جبهة النصرة» قد دمرت «الفرقة 30» التي دربها الأميركيون، واستولت على أسلحتها، وأسرت قائدها العام نديم الحسن، دون أن نسمع أي رد فعل من واشنطن.
وعندما يقول الجنرال لويد إنه «بالوتيرة الحالية البطيئة جدًا لن تتحقق أهداف برنامج التدريب»، وتعلن كريستين ورمث، وكيلة وزارة الدفاع، أنه يجري حاليًا تدريب 100 إلى 120 عنصرًا فقط، فمن الضروري النظر إلى برنامج أوباما لتدريب المعارضين المعتدلين الذي رصد له مبلغ 500 مليون دولار، وكان يفترض أن يخرّج 5400 مقاتل في السنة على مدى ثلاث سنوات على أنه فعلاً مسخرة المساخر، ولكأن البيت الأبيض يريد للدواعش المزيد من حرية الذبح والقتل!
من المبكّر الجزم ما إذا كان بوتين سيهزم الإرهابيين في سوريا أو أنه سيدخل رمالاً متحركة على الطريقة الأفغانية التي يعرفها الجيش الروسي جيدًا، لكن من الواضح أنه ألحق هزيمة معيبة سياسيًا وربما استراتيجيًا بأوباما في سوريا، إلا إذا كان أوباما دفعه إلى الانزلاق في حرب مذهبية تمتد من طرطوس إلى القوقاز مرورًا بالشيشان!
لكن لا مكان للخجل في واشنطن، فعلى امتداد أربعة أعوام كان جون كيري يكرر وراء أوباما أنه لا مكان للأسد في سوريا وعلى الأسد أن يرحل، واليوم يقول إنه على الأسد أن يتنحى ولكن ليس بالضرورة فور التوصل إلى تسوية، وغدًا لن يكون غريبًا إذا هتف مع أوباما: ليبق الأسد رئيسًا إلى الأبد لأنه أحرق البلد، وليستلق بوتين على ظهره ضاحكًا!