IMLebanon

اللاجئون والإصلاح الاقتصادي في أوروبا

refugees

محمد عبد الله العريان (كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز ية، ورئيس مجلس باراك أوباما للتنمية العالمية)

هناك حقيقة بسيطة تفسر المأساة الإنسانية المتفاقمة المتمثلة في أزمة اللاجئين في أوروبا، ولن يتمكن الاتحاد الأوروبي من التعامل مع التدفق الهائل من البشر المنهكين اليائسين على نحو يتوافق مع قيمه، ما لم تعترف الحكومات والمواطنون بهذه الحقيقة.

الأمر ببساطة أن التحدي التاريخي الذي يواجه أوروبا الآن ينطوي أيضا على فرص تاريخية. والسؤال هو ما إذا كان الساسة في أوروبا -الذين فشلوا في التعامل مع قضايا أقل تعقيدا بكثير، والتي كانت سيطرتهم عليها أعظم كثيرا- قادرين على اغتنام هذه اللحظة.

والواقع أن حجم التحدي هائل في ظل الصعوبة الشديدة التي تكتنف محاولات رصد وتوجيه تدفقات اللاجئين، ناهيك عن الحد منها. ويخاطر عشرات الآلاف من الفارين من الحرب والقمع بحياتهم بحثا عن الملجأ والملاذ في أوروبا، وهذه ظاهرة سوف تستمر ما دامت الفوضى مستمرة في بلدان المنشأ مثل سوريا، والبلدان التي تسهل العبور مثل العراق وليبيا.

وفي الوقت نفسه، تخضع شبكات النقل في أوروبا لضغوط شديدة، وكذا حال الملاجئ والمعابر الحدودية ومراكز التسجيل. والحقيقة أن سياسات اللجوء المشتركة -بما في ذلك على سبيل المثال القاعدة الأساسية التي تنص على أن طالبي اللجوء لا بد أن يسجلوا عند نقطة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي- إما أنها لا تعمل أو يجري تجاوزها، وأما المفهوم العزيز المتمثل في السفر بلا كد داخل منطقة شنغن الخالية من الحدود، فقد بات مهددا.
خفاقات التنسيق
وتتفاقم هذه المشاكل بسبب إخفاقات في التنسيق. وتتباين المواقف تجاه اللاجئين على نطاق واسع من بلد إلى آخر، فتتبنى ألمانيا نهجا مستنيرا بشكل خاص ويتناقض بشكل حاد مع موقف المجر الشديد القسوة. وتعمل بعض البلدان -مثل التشيك- على منع أي اتفاق لتقاسم العبء المنصف بين بلدان الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك عبر حصص ملزمة.

يضاف إلى ذلك رغبات اللاجئين الذين يُبدون -بعد المخاطرة بكل شيء من أجل بلوغ أوروبا- شعورا قويا بالارتباط بالمكان الذي يرغبون في الاستقرار فيه، فتصبح التحديات السياسية هائلة، وخاصة في الأمد القريب.

إن الساسة الأوروبيين لم يدركوا بعد الواقع على الأرض، ناهيك عن تجاوزه. ويؤدي فشلهم هذا إلى تفاقم المخاطر التي تهدد التماسك السياسي في الاتحاد الأوروبي، والذي نشأ من الأزمة اليونانية.

ولدى الساسة حافز قوي لتصحيح طريقة الاستجابة الأوروبية لأزمة اللاجئين، فوراء الحاجة إلى التخفيف من المأساة الإنسانية التي تغمر شاشات التلفزيون والصفحات الأولى في الجرائد، تكمن حتمية عدم إهدار الفرص الكبيرة التي توفرها الهجرة في الأمد المتوسط.

ورغم استمرار مناطق في أوروبا تعاني من بطالة مرتفعة لحد الساعة، فإن نسبة العاملين إلى كبار السن ستتراجع كثيرا في الأمد الأبعد. وبالفعل تقوضت مرونة سوق العمل نتيجة الجمود البنيوي في هذه السوق، بما في ذلك الصعوبات المتمثلة في إعادة تأهيل وتدريب العمالة، وخاصة العاطلين لفترات طويلة.

كما أدركت الحكومة الألمانية وبعض كبار رجال الشركات، بما في ذلك الرئيس التنفيذي لشركة دايملر بنز، فإن الاستعانة بنهج متفتح في التعامل مع اللاجئين واستيعابهم ودمجهم قد يساعد في التخفيف من حدة بعض المشاكل البنيوية التي طال أمدها في أوروبا. ويقال إن نسبة كبيرة من اللاجئين الوافدين هم من المتعلمين المتحمسين والملتزمين ببناء مستقبل أفضل في أوطانهم الجديدة. وبالاستفادة من هذا المعطى يستطيع صناع القرار الأوروبيون أن يحولوا التحدي الخطير في الأمد القصير إلى ميزة قوية على الأمد البعيد.
نفقات إضافية
ومن الممكن أن تساعد الاستجابة السياسية المستنيرة لأزمة اللاجئين أوروبا بطرق أخرى أيضا، وهي تعمل بالفعل على اعتماد نفقات إضافية في بلدان مثل ألمانيا -التي رغم امتلاكها الموارد الكافية، لم تكن لديها الرغبة أو الإرادة سابقا في الإنفاق- وبالتالي تساعد في التخفيف من انعدام توازن الطلب الكلي، والذي أسهم إلى جانب المعوقات البنيوية للنمو الاقتصادي والمديونية المفرطة في بعض البلدان في إعاقة التعافي في المنطقة.

ومن الممكن أيضا أن يوفر الوضع الحالي الحافز اللازم لتحقيق تقدم حاسم في إصلاح بنية الاتحاد السياسية والمؤسسية والمالية غير المكتملة، وهو كفيل بإجبار أوروبا على التغلب على العقبات السياسية التي تحول دون التوصل إلى الحلول لمشاكل طال أمدها، مثل توفير الغطاء اللازم لبعض الدائنين الأوروبيين لمنح اليونان إعفاء أكبر فيما يخص ديونها، إذ تواجه أثينا أصلا تفاقما في مشاكلها المالية وبطالتها المرتفعة، قبل أن يضاف إلى ذلك حاليا تدفق المهاجرين.

وربما يدفع الوضع الحالي أوروبا إلى تحديث إطار الحوكمة، وهو ما من شأنه أن يسمح لقلة من البلدان الصغيرة بعرقلة القرارات المدعومة من الغالبية العظمى من بلدان الاتحاد.

لا شك أن المتشائمين سيشيرون على الفور إلى أن أوروبا وجدت صعوبة كبيرة في محاولة الاتفاق حتى في قضايا أقل تعقيدا وأكثر قابلية للسيطرة عليها مثل الأزمة الاقتصادية والمالية المطولة في اليونان؛ بيد أن التاريخ أيضا يشير إلى أن الصدمات بحجم ونطاق أزمة اللاجئين الحالية من الممكن أن تعمل على تحفيز استجابات سياسية رائعة.

والواقع أن أمام أوروبا الفرصة الآن لتحويل أزمة اللاجئين اليوم إلى محفز للتجديد والتقدم. ولا نملك إلا أن نأمل في أن يتوقف ساستها عن التشاحن، وأن يشرعوا في التعاون للاستفادة من هذه الفرصة السانحة، وإذا فشلوا فإن الزخم الناظم للتكامل الإقليمي -الذي جلب السلام والازدهار والأمل لمئات الملايين من الناس- سيعتريه الضعف إلى حد كبير، وهذا سيعني الخسارة للجميع.