لم يعد ممكناً احتساب مدة الشلل السياسي الحاصل في البلد بالأيام والأشهر او حتى بالسنوات، أو احتساب أثره باستهداف طائفة من هنا والحد من سلطة طائفة من هناك، إنما احتسابه أصبح بحجم العراقيل التي وُضعت في درب حياة المواطن اليومية، وبالأضرار والخسائر التي لحقت بالقطاعات الإقتصادية عموماً، فـ”الدولارات” الضائعة وحدها يمكن أن تقدّر حجم الأزمة الراهنة. لكن “نظرية الدولارات” الضائعة بفعل الأزمة السياسية الراهنة، لم تعبّر عن قناعات خبراء الإقتصاد، إذ تجاوز بعضهم الأزمة السياسية، بتحليله لتهاوي الإقتصاد، باعتبار أن التراجعات الإقتصادية كانت السمة الأبرز للقطاعات الإنتاجية كافة على مدى سنوات مضت، في حين ذهب البعض الآخر الى الدفع بمسؤولية “شبه الإنهيار الإقتصادي” الى شلل مؤسسات الدولة، لاسيما الدستورية منها. أصحاب النظرية الأولى، بينهم الخبير الإقتصادي غسان ديبة، يعتبرون أن لا أثر يُذكر للفراغ السياسي في سدة رئاسة الجمهورية وعدم التئام مجلس النواب (المنتهية ولايته أصلاً) على الإقتصاد، وكأن شيئاً لم يكن، فالمؤشرات الإقتصادية السلبية تعود بحسب حديث ديبة لـ”المدن” الى تراكم الأزمات الإقتصادية منذ عام 2011 وحتى اليوم، ويذكّر بأنه في ذلك الوقت لم يكن الفراغ السياسي سائدا في البلد، “فلماذا نحمّله اليوم مسؤولية التراجع الإقتصادي”؟ وبحسب النظرية الأولى، فالربط بين الركود الإقتصادي والفراغ السياسي وما نتج عنه من حراك شعبي، ما هو إلا تضخيم للواقع، وهنا يوضح ديبه أن الفورة العقارية، وتراجع تحويلات المغتربين اللبنانيين، وتراكم العجز المالي وتباطؤ الدورة الإقتصادية وتراجع القطاعات الإنتاجية، لاسيما السياحة منها، وغيرها كثير من الأزمات الإقتصادية، لم تولد بشكل مفاجئ بل كانت نتيجة طبيعية لتأزم الوضع الأمني الإقليمي والمحلي منذ العام 2011 وصولاً لليوم. أما أصحاب النظرية الثانية، بينهم الخبير الإقتصادي ايلي يشوعي، فيعتمدون في تقييمهم الخسارة التي تركها وسيتركها الفراغ السياسي والمؤسساتي على الإقتصاد، الى فارق أرقام النمو المتوقع تحقيقه، فبحسب حديث يشوعي لـ”المدن”، فإنه كان متوقعاً للعام 2015 أن يحقق نمواً بنسبة 2 في المئة، لكن مع استمرار الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية، وعدم قدرة مجلس النواب والحكومية على إنتاج قرارات بنّاءة وحلول وسطية، تقلّصت الثقة الخارجية باقتصاد البلد لاسيما لجهة الإستثمارات، وتباطؤ نشاط القطاعات الإقتصادية الداخلية، ما انعكس سلباً على النمو وتوقعاته، فبات مرشحاّ أن يسجّل 0.5 في المئة بأفضل الأحوال. وانطلاقاً من النصف في المئة (0.5%) للنمو تمكّن أصحاب هذه النظرية من تحديد التكلفة شبه الدقيقة للأزمة الراهنة، أي أن تراجع مستوى توقعات النمو نحو 1.5 في المئة يعني تراجع الناتج المحلي بنسبة 1.5 في المئة من أصل 47 مليار دولار، أي ما يفوق 700 مليون دولار خلال العام الحالي، وتضاف إليها بحسب يشوعي ديون بملايين الدولارات خلّفها وراءهم رجال اعمال ومستثمرون هربوا الى الخارج بحثاً عن الإستقرار. الإختلاف بين النظريتين “جوهري”، ولكنهما تلتقيان في أن الأزمة الإقتصادية وإن كانت “متراكمة” وليست وليدة العام الحالي، فإنها متوالدة من الخلل السياسي الواقع أصلاً والمتأزم في الفترة الأخيرة، بمعنى آخر، ووفق النظريتين، فإن التراجع الإقتصادي ناجم بشكل أو بآخر عن خلل في النظام السياسي، “المُعطَّل” للإصلاحات البنيوية كافة، بسبب الإختلافات والخلافات بين أركانه، وكل ذلك يعيدنا الى أحد تقارير البنك الدولي الأخيرة، والذي عزا فيه أسباب الركود الإقتصادي المتراكم في لبنان ومعظم الأزمات الراهنة، الى بنية النظام القائم وهو النظام الطائفي، معتبراً إياه مساهماً أول بشلل القطاعات الإنتاجية ومؤسسات الدولة.