تعبق أجواء البلدات البقاعية بروائح الباذنجان والقمح المسلوق والكشك والبندورة، مبشرة بإنطلاق موسم المونة كتقليد متوارث في المجتمعات الريفية بموعد متكرر بين شهري أيلول وتشرين الأول. فما ان يحل “عيد الصليب”، حتى يصطف البقاعيون في نمط إقتصادي متجانس، تعج خلاله أسواق الخضار والحبوب والمطاحن بالزبائن، لتصبح المونة جزءاً من حلقة إقتصادية تسهم في تصريف الإنتاج المحلي، بدءاً من القمح البلدي المحوَّل الى برغل، والذي يؤمن إضافة إلى حليب الماعز جودة الكشك، الى جانب الخضار من خيار ومقتة واللوبياء المحفوظة في “المرطبانات”، والبندورة المعدة لتصنيع “رب” البندورة، ويسبقها كلّها “تيبيس” الملوخية وحفظ الأرضي شوكي والبازلاء والباميا، وطبخ الفاكهة البقاعية من دراق وكرز ومشمش وتين، واخيراً مكدوس الباذنجان الذي يكاد يكون آخر عنقود المونة وأكثرها مشقة.
على أن الحلقة الاقتصادية لعادة التموين لم تعد محصورة في البيوت او تنتهي فيها. فمع إزدياد عدد السيدات العاملات، صار الإعتماد أكبر على المونة الجاهزة، وسبّب ذلك “فورة” التعاونيات الريفية وتكاثرها في البقاع. ولكل تعاونية إختصاصها من الإنتاج الذي تتميز به بقاعاً، ولكن معظمها، كما يؤكد العاملون في برامج التطوير في غرفة التجارة والصناعة والزراعة، يختص بالمنتوجات الريفية. وفكرتها الأساسية تأمين المداخيل للسيدات اللواتي لا تملكن سوى مقدرة الطبخ، وإعانتهن في الظروف الإقتصادية الصعبة التي يعيشها معظم المجتمع الريفي.
تشرح نهى حميمص رئيسة تعاونية الإنتاج الزراعي وتوضيبه في وادي العرئش أن “مجتمعاتنا فقيرة، وهناك حاجة دائمة للسيدة كي تعين رب العائلة في مصاريف البيت. ولذلك كانت فكرة إستفادة بعض السيدات من خبرتهم في المطبخ. اي انني بدلاً من أن اصنع المونة وأوزعها على اولادي والاقارب من دون مقابل، احضرها لمنازلهم واتقاضى مقابل كلفتها واتعابي”. وتشير حميمص على سبيل المثال الى كون أكثر من 25 بالمئة من سيدات وادي العرائش ينتجن الكشك ويعتشن من ثمنه. متحدثة عن اختلاف جودة انتاجهن بين من يبدأن بالعمل منذ شهر أيار ليستفدن من سعر الحليب المنخفض، وبين من يفضلن انتظار آخر الموسم لإنتاج اجود، وكل ذلك يعود لطبقة الزبون الذي سيشتري الإنتاج ورغباته.
قبل التعاونيات كانت كل سيدة تنتج من الكشك الكمية التي تكفي بيتها فقط، وكانت سطوح المباني كلها تفرش بلبن الماعز الطازج والبرغل اللذين يمزجان يوميا حتى يجفّان، فتكون وجهة السيدات المطاحن، التي أخذ بعضها أيضا دور المرأة في تأمين الكشك جاهزاً وبكميات تجارية، كما يلفت موريس القاصوف صاحب احد أقدم المطاحن القائمة على نهر البردوني، والذي يؤكد بأن “زبائن البرغل لديه لم يتغيروا منذ خمسينيات القرن الماضي، بل توارثت الأجيال عادة التموين، لتفرض تطوراً يؤمن الحاجات المتنامية في وقت أقصر”.
ولكن التعاونيات لا تحل كلياً محل سيدات البيوت في البقاع، بل تقول حميمص ان بعض السيدات تُزودن بخبرات المدربين في ورش العمل، لترجمة جودة الانتاج في مطابخهن، هذه الخبرة التي لن تحتاجها السيدة الستينية المعروفة بـ”الحجة” في بلدة حزرتا، والتي صار لقبها بعد 50 سنة من انتاج المونة البيتية، اسماً للمطعم الذي يتميز بتقديم انتاجها.
تتحدث “الحجة” عن “مرطبانات” المونة التي تغطي جدران المطعم، باسهاب. ترفض إعطاء سر المهنة لأحد ولكنها تفتخر أنها استطاعت ان تصنع حتى من الفجل كبيساً شهياً. عندما بدأت بالعمل كان عمرها 15 سنة، وبعد تخطيها الستين تؤكد بأن حماستها لإنتاج المونة لم تضعف، وإن كان جسدها المتعب فرض عليها الاستعانة ببعض اليد العاملة، وخصوصا بعد ان تزايد الطلب ليصل الى أكثر من 800 كيلوغرام من مكدوس الباذنجان، هذه السنة.
تقول الحجة: “العمل بالمونة كان هواية، وكنت أفرح كثيرا عندما يتذوق احدهم ما صنعته، ومن هنا كانت فكرة بيع إنتاج بيتي للزبائن. ما انتجه بيدي أفكر دائما انه لشخص مميز، ولذلك لا يبالي الزبائن اذا كانت كلفة المرطبان عندي أغلى، لأنهم يعلمون انه أجود”.
تتفهم الحجة ظروف المرأة التي تفرض عليها العمل خارج بيتها، ولكنها تقول “بأن عمل المونة بالبيت يأتي بالفرح، ويكفي ان تتذوق المرأة ما انتجته يديها وتنظر الى رضا زوجها واولادها حتى تشعر بالسعادة”، من دون ان تخفي أن “مصلحتها” هي في إنشغال المرأة بأمور أخرى، وتضيف ممازحة، “خليها هي بشغلها، ولتأتي وتشتري مونتها من عند الحجة”.
لا يلغي أسلوب العيش العصري، وخصوصاً عند السيدات، الحاجة إلى المونة، فهي عامل استقرار في منازل البقاعيين خصوصا عند ارتفاع اسعار المواد الغذائية شتاءً. وحتى في ظل توفر الحاجات الغذائية في الأسواق الواسعة على مدار السنة، يكفي أن يختبر البقاعيون شتاء قاسياً كالشتاء الماضي، حتى تمتلئ زوايا المنازل بالمونة. ألم يكن الأجداد يرددون “بأيلول وتشرين موّن لعيالك وشيل الهم من بالك”؟