ما كان للقرار الذي اتخذه بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي بتأخير زيادة سعر الفائدة أن يكون مفاجئا لكل من أصغى إلى تصريحات رئيسة البنك جانيت يلين، ذلك أن القرار لم يؤكد سوى أن المركزي الأميركي مهتم بالوضع المالي الصعب في العالم. ولكن لماذا إذن تصرفت الأسواق ووسائل الإعلام كما لو كان تحرك الاحتياطي الفدرالي (أو بتعبير أكثر دقة عدم تحركه) غير متوقع؟
إن ما صدم الأسواق حقا لم يكن قرار البنك بإبقاء أسعار الفائدة عند مستوى الصفر لبضعة أشهر إضافية، بل التصريح الذي صاحب القرار، فقد كشف الاحتياطي الفدرالي أنه معني بالمخاطر المترتبة على ارتفاع التضخم، وأنه حريص على دفع البطالة إلى ما دون المستوى الذي يعده أغلب خبراء الاقتصاد “المعدل الطبيعي”، وهو 5%.
إن هذه العلاقة بين التضخم والبطالة تقع في صميم كل المجادلات حول السياسة النقدية وعمل البنوك المركزية. وتقوم كل النماذج الاقتصادية الحديثة تقريبا، بما في ذلك التي يستخدمها الاحتياطي الفدرالي، على النظرية النقدية لأسعار الفائدة، التي كان رائدها ميلتون فريدمان في خطاب تنصيبه الذي ألقاه أمام الجمعية الاقتصادية الأميركية في العام 1967.
نظرية فريدمان والعلاقة بين التضخم والبطالة
فقد أكدت نظرية فريدمان أن التضخم من شأنه أن يتسارع تلقائيا وبلا حدود بمجرد انخفاض البطالة إلى ما دون الحد الأدنى الآمن، الذي وصفه بالمعدل الطبيعي. وتقول طروحات فريدمان إن معدل البطالة الطبيعي يعد تخمينا نظريا محضا يقوم على افتراض “التوقعات المنطقية”، حتى وإن كان متعارضا مع أي تعريف طبيعي للسلوك العقلاني.
وكان نشر نظرية فريدمان في وقت مزعج في مختلف أنحاء العالم إزاء معدلات التضخم التي تجاوزت 10% سببا في إعطاء القائمين على البنوك المركزية الذريعة التي يحتاجون إليها لاتخاذ إجراءات غير شعبية بالمرة. وعن طريق زيادة أسعار الفائدة بشكل كبير للحد من التضخم، قتل صناع السياسات قوة العمل المنظم، في حين تجنبوا اللوم عن البطالة الواسعة التي كان من المحتم أن تنتج عن التقشف النقدي.
وبعد بضع سنوات، حل محل معدل فريدمان الطبيعي “معدل تضخم البطالة غير المتسارع”، والذي ينم بشكل أكبر عن سعة المعرفة. ولكن الفكرة الأساسية كانت نفسها في كلا المعدلين. فإذا استُخدمَت السياسة النقدية لمحاولة خفض البطالة إلى ما دون مستوى محدد سلفا فسيتسارع التضخم دون توقف ويؤدي إلى فقدان الوظائف. والواقع أن السياسة النقدية التي تستهدف معدل تضخم البطالة غير المتسارع الأدنى من الطبيعي ينبغي تجنبها بأي ثمن.
وهناك نسخة أكثر تطرفا للنظرية تؤكد عدم وجود علاقة تبادلية دائمة بين التضخم والبطالة، فكل الجهود المبذولة لخلق الوظائف أو حفز النمو الاقتصادي باستخدام المال المتدني الكلفة لن تسفر إلا عن تعزيز تضخم الأسعار، وهو ما سيمحو أي تأثير على البطالة، وبالتالي لا بد أن تركز السياسة النقدية فقط على تحقيق أهداف التضخم، ولا بد من تبرئة البنوك المركزية من أي لوم بشأن البطالة.
ضحالة النظرية المقيدة لصلاحيات البنوك المركزية
لقد كانت النظرية النقدية التي بررت حصر مسؤوليات البنوك المركزية في تحقيق معدلات التضخم المستهدفة مدعومة بقدر ضئيل للغاية من التجربة عندما اقترحها فريدمان. ومنذ ذلك الحين، تم تفنيد النظرية سواء بفعل الخبرة السياسية أو الفحص الإحصائي. والحقيقة أنه تبين أن السياسة النقدية البعيدة كل البعد عن الانغماس في رفع الأسعار -كما صورتها النظرية- تخلف تأثيرا أعظم بكثير على البطالة مقارنة بتأثيرها على التضخم، خاصة في العقدين الماضيين.
ولكن رغم التفنيد التجريبي فإن الجاذبية الأيديولوجية التي تتمتع بها النظرية النقدية، المدعومة بسلطة التوقعات “المنطقية” المزعومة، تم إثباتها بشكل كبير. ونتيجة لهذا اكتسب النهج القائم على التوجه المحض نحو التضخم في التعامل مع السياسة النقدية هيمنة كاملة في عمل البنوك المركزية والاقتصاد الأكاديمي على حد سواء.
ويعيدنا هذا الأمر إلى الأحداث الأخيرة في القطاع المالي. إن نماذج استهداف التضخم التي يستخدمها بنك الاحتياطي الفدرالي (وغيره من البنوك المركزية والمؤسسات الرسمية مثل صندوق النقد الدولي) تفترض جميعها وجود سقف محدد سلفا للبطالة غير التضخمية، ويقصد بها الوضع الذي تقل فيه نسبة البطالة عن نسبة ارتفاع التضخم. ووفقا لتقديرات أحدث نماذج الاحتياطي الفدرالي فإن معدل تضخم البطالة غير المتسارع يتراوح بين 4.9% و5.2%.
ولهذا السبب، كانت صدمة العديد من الاقتصاديين والمتعاملين في الأسواق كبيرة إزاء شعور جانيت يلين الواضح بالرضا عن الذات. فمع انخفاض معدل البطالة في الولايات المتحدة الآن إلى 5.1%، تملي النظرية النقدية القياسية ضرورة رفع أسعار الفائدة على وجه السرعة. وخلافا لذلك، فإما أن يأتي لاحقا انفجار كارثي حتمي للتضخم، وإما أن يتبين أن مجمل النظرية الاقتصادية التي هيمنت على جيل من الفكر السياسي والأكاديمي منذ أبحاث فريدمان بشأن التوقعات “المنطقية” والبطالة “الطبيعية” كانت خاطئة تماما.
ماذا ينبغي لنا أن نستخلص إذن من القرار الذي اتخذه المركزي الأميركي بعدم رفع الفائدة؟ الواقع أن أحد الاستنتاجات المحتملة مبتذل، فلأن معدل تضخم البطالة غير المتسارع يتألف من بنية نظرية بحتة، فإن خبراء الاقتصاد لدى البنك يمكنهم ببساطة أن يغيروا تقديراتهم لهذا الرقم السحري. ولقد خفض الاحتياطي الفدرالي بالفعل تقديره للمعدل المذكور ثلاث مرات في العامين الماضيين.
الاحتياطي الفدرالي ونظرية معدل البطالة الطبيعي
ولكن ربما يكون هناك سبب أكثر عمقا وراء إحجام الاحتياطي الفدرالي عن رفع الفائدة، إذ من خلال خطب جانيت يلين الأخيرة ربما لم يعد مقتنعا بأي نسخة من معدل البطالة “الطبيعي”.
وتظل افتراضات فريدمان بشأن التضخم المتسارع والتوقعات “المنطقية” إلى حد غير منطقي، التي تؤدي إلى استهداف استقرار الأسعار على نحو يتسم بضيق الأفق، تشكل جزءا لا يتجزأ من النماذج الاقتصادية الرسمية وكأنها أسطورة الخلق التوراتية. ولكن يبدو أن بنك الاحتياطي الفدرالي، إلى جانب كل البنوك المركزية الأخرى تقريبا فقد إيمانه بتلك النظرية.
وبدلا من ذلك، يبدو أن القائمين على البنوك المركزية الآن يعودون ضمنا (بل وربما دون وعي) إلى وجهات النظر التي سادت قبل النظرية النقدية، التي تزعم بأن المقايضات بين التضخم والبطالة تظل حقيقية وقد تستمر لسنوات طويلة.
وينبغي للسياسة النقدية أن تعيد تدريجيا تقويم التوازن بين هذين المؤشرين الاقتصاديين في ظل تطور دورة الأعمال. فعندما يكون التضخم منخفضا لا بد أن تكون الأولوية القصوى هي خفض البطالة إلى أدنى مستوى ممكن، ولا يصبح هناك أي مبرر مقنع لسياسة نقدية تقيد إحداث الوظائف أو نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى أن يصبح التضخم المفرط خطرا داهما.
ولا يعني هذا ضمنيا استمرار أسعار الفائدة القريبة من الصفر إلى الأبد، فمن شبه المؤكد أن الاحتياطي الفدرالي سيبدأ في رفع أسعار الفائدة في ديسمبر/كانون الأول المقبل، ولكن تشديد السياسة النقدية سيكون أبطأ كثيرا من الدورات الاقتصادية السابقة. وسوف يكون الدافع إليه المخاوف بشأن الاستقرار المالي وليس التضخم.
مخاوف الأسواق الناشئة غير مبررة
ونتيجة لهذا فإن المخاوف -التي تكاد تقترب من حالة الهلع في بعض الأسواق الناشئة- بشأن التأثير الذي قد يخلفه تشديد الاحتياطي الفدرالي لسياسته النقدية على الظروف الاقتصادية العالمية قد تكون غير مبررة.
والخبر السيئ هنا هو أن الغالبية العظمى من المحللين في السوق، الذين ما زالوا يتشبثون بإطار النظرية النقدية القديم، سيتهمون الاحتياطي الفدرالي “بالتخلف كثيرا عن المنحنى” لأنه سمح لمعدل البطالة في الولايات المتحدة بالانخفاض إلى مستوى أدنى مما ينبغي، وفشل في استباق خطر ارتفاع التضخم. وينبغي للمركزي الأميركي أن يتجاهل ببساطة مثل هذه الاحتجاجات الرجعية، كما فعل عن حق في الأسبوع الماضي.