سلوى بعلبكي
من البديهي أن يتراجع نشاط القطاعات الاقتصادية في لبنان، في ضوء تلبّد المناخ السياسي المحلي العام وتداعيات الأزمة السورية على ثقة المستثمرين والمشترين، وهذا التأثير كان واضحاً على القطاع العقاري بدليل انخفاض معاملات البيع العقارية بنسبة 14% خلال الأشهر السبعة الأولى.
التباطؤ الذي تأثر بفعل تراجع الطلب من المستثمرين العرب والمغتربين اللبنانيين، لا يعني أن النشاط بات معدوماً. فالمشترون اللبنانيون المقيمون أبقوا السوق العقارية متماسكة نسبياً، كونهم يشكلون المحرك الرئيسي لها في الوقت الراهن.
ووفق التقرير الذي أصدره قسم الأبحاث في بنك عوده، تراجعت مساحات رخص البناء الممنوحة بنسبة 19% خلال الأشهر السبعة الأولى من 2015. فكانت المشاريع العقارية الجديدة أقل في بيروت مما كانت عليه قبل بضعة أعوام، وذلك لمصلحة جبل لبنان والجنوب. لذا تراجعت حصة بيروت من إجمالي رخص البناء الممنوحة إلى 8% فقط في 2014.
وفي ظل أسعار لا تزال مرتفعة في معظم الأحياء السكنية، فإن الهوّة المستمرة بين القدرة الشرائية للمقيمين وأسعار المساكن ترخي بثقلها على المبيعات العقارية عموماً، علماً ان مصرف لبنان يضخّ من جهته جرعة دعم للسوق العقارية من خلال المبادرات التحفيزية التي أطلقها، اذ يُخصًّص جزءاً كبيراً منها للقروض السكنية، وتالياً دعم الطلب الإجمالي في البلاد. وقد أعلن أخيراً عن رزمة تحفيز جديدة تقدر بمليار ونصف المليار دولار لسنة 2016 (بما فيها قروض سكنية)، والتي من المرجح، وفق التقرير، أن يكون لها أثر داعم للسوق العقارية.
ترتبط آفاق السوق العقارية في لبنان بتطور الأوضاع الداخلية والإقليمية. وإذا ما بقيت الأوضاع الراهنة على حالها أو حتى إذا ساءت، فإن قابلية المشتري على إتمام عمليات عقارية ستبقى محدودة نسبياً. أما في حال ظهور بوادر إيجابية ملموسة، فإن نشاط أكبر للمبيعات العقارية قد يؤدي إلى تصفية تدريجية لفائض العروض في السوق عموماً. وفي مرحلة لاحقة، (على أساس سيناريو التسوية الإقليمية)، فإننا قد نشهد من جديد منحى تصاعدياً في مستويات الأسعار.
ولكن ما الذي يدعم سوق العقارات في هذه الظروف الصعبة؟ وفق كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى بنك عوده الدكتور مروان بركات، فإن غياب الفقاعة العقارية في قطاع العقارات هو الذي يدعم السوق، بما يحدّ تالياً من انخفاض الأسعار. إذ أن الاسعار لم تنخفض على نحو لافت خلال الأعوام القليلة الماضية على رغم الظروف غير المواتية نسبياً لحركة الاستثمار العقارية منذ عام 2011، أي أن التصحيح في أحجام السوق لم يواكبه تصحيح مماثل في الأسعار.
ويلاحظ أن أسعار العقارات في السوق اللبنانية ترتفع في حركة تصحيحية صعوداً ثم تعود لتستقر في فترة التباطؤ حتى تستوعب السوق ديناميات الأسعار الجديدة، لكنها لا تتراجع بطريقة لافتة. وأرجع بركات الأسباب الكامنة وراء هذا المنحى غير النمطي نسبياً الى ثلاثة عوامل: أولاً، الطلب الحقيقي غير المضارب في سوق يخيم عليها طابع الاستخدام الشخصي، اذ أن المضاربات لا تتجاوز 20% من الطلب الإجمالي، ما يضفي على الطلب العقاري دعماً بنيوياً. ومع بلوغ عدد الأسر المقيمة في لبنان نحو مليون أسرة ومع نمو عدد السكان بمتوسط سنوي نسبته 1%، تقدر الحاجات السكنية السنوية للمقيمين وحدهم بما يقارب 10 آلاف وحدة سكنية، ناهيك بطلب غير المقيمين وإن كان هذا الأخير يشهد تباطؤاً في الآونة الأخيرة. ثانياً، تتمثل هذه العوامل بالرافعة الاقتراضية المتدنية لدى المقاولين الذين يعتمدون على إمكاناتهم الذاتية أكثر من اللجوء إلى الاستدانة، إي أنهم ليسوا تحت ضغط خفض أسعارهم لتسديد ديونهم. ويتعلّق العامل الثالث بندرة الأراضي المتوافرة عموماً والتي تدعم على نحو مستمر أسعار الشقق. هذه العوامل تدل برأي بركات، على أن السوق العقارية في لبنان ترتكز على أسس بنيوية جيدة نسبياً على رغم فترة التبلّد في الأجواء العامة أخيراً.
ووفق التقرير، تعتبر السوق العقارية حالياً ملائمة للمشترين أكثر من أي وقت مضى. فالمشترون لديهم القدرة التفاوضية التي يحتاجون إليها، إضافة إلى الخيارات المتنوّعة المتاحة أمامهم من شقق سكنية، ناهيك بالإمكانات التمويلية المتوافرة لإتمام عمليات شراء جيدة في الوقت الراهن.
هذا الامر يؤكده لـ”النهار” الخبير العقاري رجا مكارم، إذ يشير الى أن المطورين العقاريين يجرون حسومات لزبائنهم بنسب تصل الى 25%، ولكن الاسعار وعلى رغم هذه الحسومات تبقى غير مغرية جداً للشراء. لكن ما يدفع المطوّرين الى اجراء حسومات، هو حاجة البعض منهم الى سيولة تبقيهم صامدين في ظل هذا الهدوء العقاري.
ويصر مكارم على أن السوق العقارية متماسكة خصوصاً اذا ما قورنت بالاوضاع السياسية والامنية، ولكن اذا ما قورنت بأعوام الذروة (2008-2009-2010)، فإنها تعتبر جامدة. وفيما يلفت الى غياب الخليجيين عن الساحة اللبنانية، يعبّر عن اعتقاده بأنهم سيعودون اليها عاجلاً أم آجلاً، وخصوصاً اولئك الذين جربوا الاستثمار في دول أخرى. وتطرق التقرير الى سوق العقارات التجارية، إذ أشار الى أنها تأثرت بالتباطؤ الاقتصادي الحاصل وتقلّب الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد، مع تباطؤ الإنفاق الاستهلاكي وانعكاسه على قابلية المشترين في السوق. وتجاوز عرض العقارات التجارية المتاحة حجم الطلب، مما أدى إلى ضغوط في شروط السوق. في موازاة ذلك، لا يزال أداء سوق المكاتب بطيئاً للأسباب ذاتها. وشهدت إيجارات المكاتب في لبنان انخفاضات نسبية في العام الماضي، في ظل تأجيل خطط استثمارية جديدة ريثما يتعزّز الاستقرار أكثر في البلاد.