غالبا ما تكون تحولات الأسعار بشائر مبكرة للتغيير العالمي. مثلا، أول لمحة حصل عليها البريطانيون فيما يتعلق بغزوات المغول في القرن الثالث عشر في أوروبا كانت ارتفاعا حادا في أسعار الأسماك في ميناء هارويتش الواقع على الساحل الشرقي. وكانت أساطيل صيد الأسماك في بحر البلطيق قد توقفت عن الإبحار بعد إعادة توجيه طواقمها لمحاربة الغزاة، وبالتالي قطع الإمدادات من الأسماك عن واحدة من كبريات الأسواق في إنجلترا.
أما الاختلاجات الاقتصادية الحالية النابعة من الشرق فهي مختلفة جدا، لكنها تعطي إشارة إلى تغيرات تعرض الثروات العالمية للخطر. يتدفق الانكماش، وهو عبارة عن تراجع لفترات طويلة في أسعار المنتجات، كتيار هواء بارد قادم من اقتصادات مراكز النفوذ في آسيا ملقيا البرودة على اليابان وأوروبا، مع تعريضه أيضا جهود الولايات المتحدة الرامية إلى الحفاظ على الانتعاش للخطر.
على الرغم من أن إجمالي الأسعار المتراجعة قد يبدو أمرا حميدا بالنسبة للمستهلكين، إلا أنها في الواقع تسبب الخوف لدى صناع السياسة الاقتصاديين، لأنها تعمل على تآكل أرباح الشركات وترغمها على خفض الوظائف، ما يعمل على استنزاف الطلب الكلي.
اتهم الانكماش بتحويل انهيار سوق الأسهم الأمريكية عام 1929 إلى “الكساد العظيم”. وشكلت مخاوف من أن دوامة أسعار متجهة إلى أسفل قد تتلو الأزمة المالية للعام 2009/2008، دافعا رئيسيا وراء قرار بن برنانكي، رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، لإطلاق العنان لبرنامج التسهيل الكمي – السياسة النقدية التي هيمنت على الدورة الاقتصادية في العالم منذ ذلك الحين.
لهذه الأسباب يعتبر وجود دليل على دوامة انكماشية متفاقمة في آسيا – تطلق شرارتها طاقة تصنيعية مفرطة، وتبخر الطلب التجاري، وإنتاجية عليلة – سببا رئيسيا للقلق. وتزداد الحيرة والمخاوف بسبب الطبيعة الهيكلية للمشكلة. بمعنى أنها تحدث تماما في الوقت الذي يقع فيه كل من الاتحاد الأوروبي واليابان فريسة الانكماش، في حين تكافح الولايات المتحدة مع أرباح شركات ضعيفة، ما يجعل أسعار آسيا الآخذة في الانخفاض قضية محورية.
يقول ألبرتو جالو، رئيس بحوث الائتمان الكلي الأوروبي لدى رويال بانك أوف سكوتلاند: “هناك احتمال أن نتحرك نحو انكماش عالمي. أثقلتنا الديون في كل مكان وبدلا من الحد من الطاقة، نعمل على إيجاد حالة مطولة من الطاقة الصناعية المفرطة التي تعمل على خفض الأسعار. والصين أكبر مثال على ذلك”.
خطر الانزلاق إلى الانكماش في جميع أنحاء العالم يثير أيضا قلق مايكل باور، المختص الاستراتيجي لدى شركة إنفستيك لإدارة الأصول. فهو يعتبر انخفاض الأسعار نتاج خلل أساسي بين فائض الإمدادات من آسيا وندرة الطلب من الغرب. ويقول: “من الناحية الاقتصادية، تهبط الأسعار لأن العرض المنسق القادم من آسيا يكتسح أفضل الجهود الغربية المبذولة لضخ الطلب عن طريق أمثال برنامج التسهيل الكمي”.
ويكمن كابوس السيناريو الانكماشي في أن هبوط الأسعار في آسيا يعمل على تخفيض أرباح الشركات، ما يدفع حالات الفصل الجماعية عن العمل ويحد من الطلب على السلع الاستهلاكية. أما العبء الذي يفرضه هذا على الطلب العالمي فيمكن أن تشتد حدته، ما يسبب تعثرا للنمو الاقتصادي الضعيف في أوروبا واليابان وإضعافا للدينامية في الولايات المتحدة. وهناك جوانب من هذا السيناريو أخذت تحدث منذ الآن.
تعقيد المشاكل
الأمر المهم في مشكلة آسيا هو ذلك النوع المعين من الانكماش الذي تعانيه. القضية ليست مع الأسعار الاستهلاكية، لأن هذه لا تزال مزدهرة في معظم المحال التجارية في المنطقة. بدلا من ذلك، تكمن القضية في أسعار المنتجين – المبلغ الذي يمكن أن تدفعه المصانع والمناجم والمزارع وغيرها من القطاعات الإنتاجية مقابل السلع الأساسية، أو المنتجات التصنيعية والمكونات التي تبيعها.
وفقا لبنك مورجان ستانلي، مؤشر أسعار المنتجين وصل إلى أدنى متوسط له منذ ست سنوات في أكبر عشرة اقتصادات آسيوية (باستثناء اليابان). فقط إندونيسيا من بين الاقتصادات العشرة هي التي تشهد تضخما في أسعار المنتجين، بينما تعاني كل من كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة حالة هبوط انكماشي منذ نحو ثلاث سنوات.
ويلاحظ تشيتان آهيا، كبير اقتصاديي آسيا في بنك مورجان ستانلي، أن الصين شهدت 42 شهرا متتاليا من الانخفاض في أسعار المنتجين، ما يجعلها الاقتصاد الكبير الوحيد ـ باستثناء اليابان في التسعينيات ـ الذي يظهر مثل هذا الاتجاه الانكماشي المستمر.
عموما، أسعار المنتجين في الصين انخفضت بنسبة تراكمية بلغت 10.8 في المائة عن الذروة التي وصلت إليها أخيرا في عام 2011. أما السرعة التي تنخفض بها الأسعار فهي مدعاة للانزعاج. حتى وقت قريب هو آب (أغسطس) من العام الماضي، كان مؤشر أسعار المنتجين للسلع الأساسية يظهر انخفاضا نسبته 1.1 في المائة فقط، لكن في آب (أغسطس) الماضي بلغ الانخفاض 12.8 في المائة. وحتى أن بلدا مثل الهند التي تملك اقتصادا قويا، وقعت في انكماش أسعار المنتجين خلال العام الماضي.
ولا يعتبر الانكماش في آسيا النتيجة الوحيدة للتراجع العالمي في أسعار السلع الأساسية. التأثيرات الضارة واضحة أيضا من جراء انخفاض أسعار المنتجات المصنعة ومكوناتها، التي تراجعت في المتوسط بنسبة 4.4 في المائة على أساس سنوي في آب (أغسطس) وذلك في الاقتصادات العشرة الرائدة في المنطقة (باستثناء اليابان).
الشعور بالألم
عانت الشركات الصناعية الصينية تراجعا سنويا في أرباحها بلغت نسبته 8.8 في المائة في آب (أغسطس)، ويعد هذا أكبر انخفاض منذ بدأ وضع السجلات في عام 2011. في أماكن أخرى من آسيا يتكرر الاتجاه نفسه، مع تراجع كل من مبيعات وأرباح أكبر شركات المنطقة المدرجة في البورصة خلال الربع الثاني من العام، وفقا لمورجان ستانلي.
وتكون بعض تداعيات الشركات لافتة للنظر. فقد أعلنت “لونجماي”، وهي شركة فحم صينية كبيرة، الأسبوع الماضي الاستغناء عن 100 ألف عامل بسبب صراع “حياة وموت” من أجل إنقاذ ميزانية عمومية تعاني الاستنزاف. وقال وانج زيكوي، رئيس الشركة، إن لونجماي سجلت خسائر فادحة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام وكانت تغلق مناجم الفحم الحجري وتبيع الأصول للوفاء بديونها.
وتولد شركة كاتربلر، صانعة المعدات الثقيلة الأمريكية، 60 في المائة من أرباحها قبل خصم الضريبة خارج الولايات المتحدة، معظمها في الأسواق الناشئة. لكنها اضطرت إلى إغلاق 20 من المرافق التصنيعية منذ عام 2012 وتخفيض 31 ألف فرصة عمل. وأعلنت الشهر الماضي أن عام 2016 من المرجح أن يشهد سنة رابعة لم يسبق لها مثيل من الانخفاض في المبيعات.
وهناك شركة معدات أخرى، هي مجموعة إيرزونج الوطنية في الصين، المملوكة للدولة، التي تصنع معدات الصهر والتشكيل، والتي تعثرت في مدفوعات الفوائد في الشهر الماضي بعد قبول محكمة محلية طلب إعادة هيكلة لواحد من دائنيها.
وأخذت مثل هذه الحوادث تبدو وكأنها قشة في مهب الريح. فقد كان هناك عدد صغير لكن مهم من حالات الإعسار على سندات العملات الأجنبية من قبل مقترضي الأسواق الناشئة هذا العام في الأشهر الثمانية الأولى، أكثر مما كان موجودا في عام 2014 بأكمله، وفقا لوكالة ستاندرد آند بورز.
إن الانخفاض في الإيرادات عبر آسيا أمر خطير على وجه التحديد مع عبء ضخم من ديون الشركات يعمل على زيادة مخاطر حدوث “ركود في الميزانية العمومية”، ترغم فيه رسوم خدمات الديون المرتفعة الشركات على التركيز على التوفير بدلا من الإنفاق أو الاستثمار، وهو ما يعمل بالتالي على تباطؤ النمو.
ويرى أندرو بولك، وهو اقتصادي أول في “مجلس المؤتمر” في بكين، أن مثل هذا الركود أمر قائم في الصين، خاصة بين المنتجين الصغار.
ويقول معهد التمويل الدولي “آي آي إف”، وهو اتحاد للصناعيين، إن آسيا – وعلى وجه الخصوص الصين، حصلت على نصيب الأسد من زيادة في الدين بلغت خمسة أضعاف في الشركات غير المالية في الأسواق الناشئة على مدى العقد الماضي. ويقدر المعهد أن المجموع العام الآن عند 23.7 تريليون دولار، أو 90 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للسوق الناشئة.
ويقول هنج تران، الرئيس التنفيذي للمعهد: “إن السرعة في تراكم الديون كانت مذهلة. تظهر البحوث كلها أن سرعة تحمل الديون تلعب دورا مهما في نوعية تلك الديون وفي الأزمة اللاحقة”. ويضيف: “نحن نشهد بالفعل عبئا متزايدا على مقترضي الشركات لخدمة تلك الديون”.
وعمل تأثير ذلك العبء المتحالف مع الدوامة الانكماشية، التي تخفض عائدات استثمارات الشركات، على إثارة تدفق خارجي صاف لرأس المال من الأسواق الناشئة يقدر معهد التمويل الدولي أن يبلغ 540 مليار دولار هذا العام – وهي المرة الأولى التي تكون فيها التدفقات الصافية سلبية منذ تطور الأسواق الناشئة كمفهوم في أواخر الثمانينيات.
المشكلة، باختصار، هي أن كلا من المستثمرين بشكل مباشر في المصانع والآلات، أو مستثمري المحافظ في الأصول والسندات لا يعتبرون الأسواق الناشئة – ومن ضمن هذا التصنيف، آسيا – مكانا جاذبا لوضع أموالهم فيه في الوقت الراهن. وتعمل أسعار المنتجين الآخذة في الانخفاض على تلاشي عائدات الشركات، في حين تعمل مدفوعات الديون على تخفيض الأرباح.
وحذر صندوق النقد الدولي الشهر الماضي من أن الضغط على الشركات المثقلة بالديون قد يزداد في حال شدد الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وغيره من المصارف المركزية سياساتهم النقدية. ومن المتوقع أن يزيد الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة الأمريكية لأول مرة منذ عقد في وقت لاحق من هذا العام، أو في مطلع عام 2016.
وقال صندوق النقد الدولي في آخر تقرير نصف سنوي خاص بالاستقرار المالي العالمي: “ينبغي للأسواق الناشئة الاستعداد لزيادة في نسبة فشل الشركات”.
وتبين نظريات الانكماش الكلاسيكية، بما فيها تلك التي تسمى “مبدأ برنانكي”، أن أسعار المنتجين المتراجعة تنتج عن انهيار في الطلب الكلي. وهذا يؤدي، كما قال برنانكي عام 2002، إلى حدوث “انخفاض حاد جدا في الإنفاق لدرجة ترغم المنتجين على خفض الأسعار على أساس مستمر من أجل إيجاد مشترين”. وأدى هذا التشخيص بشكل مباشر إلى رد الفعل الأمريكي الرئيسي المتعلق بخطر الانكماش، وهو إنعاش الطلب عن طريق ضخ السيولة في الاقتصاد عن طريق برنامج التسهيل الكمي.
وعلى أية حال، في حالة الانكماش في آسيا على الأقل، يبدو من المرجح أن العامل الرئيسي الذي يسبب ضغطا لأسعار المنتجين هو الفائض في العرض وليس عدم كفاية الطلب.
وإذا كانت هذه هي الحال، فإن النوبات غير النهائية من التسهيل الكمي – أو “التسهيل الكمي إلى ما لا نهاية” كما يصفه جالو – ربما تكون قد أدت إلى تفاقم وليس التخفيف من حدة مشكلة الانكماش بالعمل على إطالة أمد العرض المفرط من خلال توفير الائتمان الرخيص للشركات.
يقول جالو: “بحد ذاته، التسهيل الكمي يمكن أن يكون إلى ما لا نهاية انكماشيا على المدى الطويل، لأنه يعني أنه لم يتم حل قضية الطاقة المفرطة وإنما تم تأجيلها. وهذا بدوره يؤدي إلى حدوث انكماش مطول وفي الوقت نفسه فقاعات في أسعار الأصول”.
انهيار الحواجز
يشير باور إلى انهيار الحواجز التي تعترض الدخول إلى قطاع التصنيع في آسيا باعتبارها سببا لاستمرار الإفراط في عرض المنتجات. وكان العرض مدفوعا أيضا بالحوافز التي تقدمها الحكومة – مثل الإعفاءات الضريبية والخصومات على عمليات شراء الأراضي وغيرها من السياسات الوطنية – بهدف اجتذاب الاستثمارات الصناعية. ويقول باور: “استطاعت فيتنام تأمين مصنع الهواتف الخلوية الجديد لشركة سامسونج. ويهاجر قطاع تصنيع المنسوجات العادية غير الفاخرة إلى بنغلادش. وتبدأ كل من كمبوديا وإندونيسيا بتحقيق الفوز هنا أيضا. في الوقت نفسه، أطلقت الهند حملة خاصة بها وهي بالفعل رائدة في صناعة الدراجات البخارية والدراجات النارية”. هذا الطوفان من العرض، كما يصفه باور، ينهار أمام حالة الركود في التجارة الآسيوية. فقد أظهرت الصادرات في المنطقة أسوأ أداء لها منذ الأزمة عام 2008/2009، وانخفضت 7.7 في المائة في تموز (يوليو)، لتسجل الشهر التاسع على التوالي من التراجعات السنوية بالقيمة الدولارية، وفقا لبيانات تم جمعها من قبل شركة كابيتال إكونومكس للبحوث.
لكن سبب التبخر في نمو التجارة الآسيوية يثير القلق بشكل أكبر من الاتجاه نفسه. وتفشل قيم العملات الآخذة في الضعف مقابل الدولار في تعزيز أداء الصادرات – كما هو متوقع عادة – لكنها مع ذلك تعمل على خفض الطلب على الواردات، وبالتالي تفاقم هذا الاتجاه الانكماشي. ووجدت دراسة لـ”فاينانشيال تايمز” أن أحجام الواردات انخفضت بمتوسط بلغ 0.5 في المائة لكل 1 في المائة من نسبة انخفاض قيمة العملة مقابل الدولار.
ومن الصعب رؤية أي فائدة في هذه المرحلة من فترة الانكماش في آسيا، مع بقاء الطاقة المفرطة المزمنة، والطلب على التجارة في حالة ضعف، والإنتاجية عليلة، والاقتصاد العالمي في حالة سيئة.
يرى تران الأمور من منظور يتعلق بدورات تاريخية متعددة السنوات. كان الجزء العلوي لدورة السلع الأساسية الفائقة ـ التي حدد من خلالها أربع دورات منذ 1890، يغلب عليها أن تدوم نحو 20 عاما، في حين دامت الأجزاء السفلية لفترة راوحت بين 15 و26 عاما.
ويقول: “نحن الآن في السنة الرابعة من الدورة الهابطة. هذه ليست مشكلة يمكن تغييرها إلى الأفضل بسرعة”.