عامر محسن
بينما كانت المنطقة مشغولة بأخبار سوريا، جرى فجر الاثنين، في فندقٍ بمدينة أتلانتا، توقيع اتفاق “الشراكة عبر المحيط الهادئ” الذي سيجمع ما يقارب الأربعين بالمئة من الاقتصاد العالمي في منطقة تجارة حرّة موحّدة. المفاوضات النهائية استغرقت خمسة أيام بلياليها، وهي نتاج محادثات عمرها أكثر من خمس سنوات بين الولايات المتحدة وباقي “الشركاء” الـ11 (أهمّهم بالطبع اليابان، ويبدو أن اقتصادات اسيوية كبرى، ككوريا الجنوبية وتايوان، ستلتحق بالمعاهدة).
على عكس أكثر الاتفاقات الجماعية للتبادل الحرّ (كالـ”نافتا” أو الاتحاد الأوروبي أو “ميركوسور”)، لا ترتكز هذه الشراكة على اقليمٍ جغرافي محدد، أو دولٍ محاذية تسعى لتعزيز التكامل والتجارة البينية، بل تضمّ بلاداً تتوزع على طرفي العالم ويفصلها عن بعضها بعضا أكبر محيطٍ في العالم – ككندا ونيوزيلاندا والمكسيك وسنغافورة وفييتنام. هذا انعكاسٌ اقتصادي و”قانوني” لانتهاء عصر الفوردية، وعولمة نمط التصنيع “الليّن”، حيث تجري تجزئة سلسلة الانتاج وتوزيعها على بلادٍ عدة. فيصير من الممكن تخيّل أسواق وتبادلات متحررة من الجغرافيا (يكون مقر الشركة وانتاج التصاميم في اميركا مثلاً، وتستورد قطناً من ماليزيا، ثم تصنّعه في فييتنام، بعد اضافة مكونات من الصوف الاسترالي، ثم تسوّقه في اليابان من دون أي ضرائب استيراد أو حواجز، كأن العملية تجري في بلدٍ واحد).
من جهةٍ أخرى، فإن المحللين الأميركيين ينظرون الى الاتفاقية كالإنجاز الأبرز الذي يريد أوباما أن يسجله للتاريخ قبل أن يترك البيت الأبيض، والجانب الاقتصادي من سياسة “الاستدارة صوب آسيا” التي انتهجتها واشنطن. اهتمام الرئيس الأميركي وجهده، في الأشهر التالية، سينصبّان على حشد التأييد للمعاهدة في الكونغرس، حيث ستعرض على اعضائه للموافقة عليها او رفضها السنة المقبلة.
في أكثر الإعلام الغربي وفي خطاب السياسيين، يجري الترويج للشراكة تحت عنوان “التجارة الحرة” لأنه، كما كتب المعلق الاسترالي مايكل ويست، يميل الجمهور الى عدم معارضة شعار فيه كلمة “حرية”، ومعاهدة تقدّم نفسها كوسيلة لتسهيل التبادل بين الدول، وخفض الرسوم والعوائق أمام التجارة (من قد يعترض على ذلك؟)، الّا أنّ حجّة التجارة الحرة قد لا تكون أكثر من واجهة لمشروع “الشراكة عبر المحيط الهادئ”.
نص الاتفاقية (كنصوص المسودات والمفاوضات التي أفضت اليها) ما زال سرياً ولن يكشف عن تفاصيله قبل شهرٍ من الآن، وهذه حجة يستخدمها أعداء المشروع للتشكيك فيه (كرئيس حزب “الديمقراطيين الجدد” في كندا الذي يقول في موسم الانتخابات القائم انه، ان صار رئيس وزراء، فسيلغي “هذه المعاهدة السرية”). كلّ ما نعرفه عن تفاصيل المعاهدة هو من بيانٍ رسمي يقدّم توصيفات مقتضبة لبنودها الثلاثين: الغاء الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء، منظومة لحماية الملكية الفكرية، ضوابط لحماية البيئة وحقوق العمال (يجري الحديث عنها بكثرة في البيانات الرسمية، لتبيان “الجانب الأخلاقي” في المشروع)، وصيغة قانونية لحل الخلافات بين الشركات والدول.
غير أنّ الاتفاقية لن تنتج “تحريراً” و”فتحاً للأسواق” كما تعد الجمهور، يلاحظ الاقتصاديون، فالدول الأعضاء، من جهة، أكثرها عضو في منظمة التجارة الدولية وسبع من الدول الاثنتي عشرة، على الأقل، تربطها أصلاً اتفاقات ثنائية لتحرير التجارة ورفع القيود الجمركية. لن تغيّر الشراكة، اذاً، شيئاً مهماً في هذا الإطار، باستثناء سلعٍ معينة، كمشتقات الحليب ومنتجات الزراعة واللحوم، كانت تخضع للحماية. ونظريات “حصار الصين” (التي جرى استثناؤها من العضوية) ليست واقعية، فالصين ــ تقول مجلة “فورتشن”، أوصت بإدخال بيجينغ الى المنظومة ــ لها اتفاقات تجارة ثنائية مع أكثر هذه الدول، وقد تستفيد ــ بالمعنى العملي ــ منها كأنها من الدول الأعضاء (كأن تصدّر الصين مواد نصف مصنعة الى فييتنام، تحت غطاء الاتفاق الثنائي بين البلدين، ثم تصدّر السلعة الى الولايات المتحدة من دون رسوم). فلماذاً، اذاً، كلّ هذا الجهد لإنجاح “الشراكة”؟
الإجابة المنطقية الوحيدة تشير، أولاً، الى مصالح الشركات الكبرى. حين جرى تمرير اتفاقية “نافتا” لفتح التجارة بين اميركا والمكسيك وكندا، في عهد بيل كلينتون، كانت معظم المصالح الإقتصادية والشركات العالمية داعمةً لها؛ غير أن الذاكرة الشعبية الأميركية تسترجع “نافتا” كالمسمار الأخير في نعش نسخة الخمسينيات والستينيات من “الحلم الأميركي”. فكرة أن يتمكّن العامل الأميركي، ولو بشهادة مدرسية، من العثور على عملٍ مضمون ودائم في القطاع الصناعي، يضعه، بعد سنوات من الجدّ، في مصاف الطبقة الوسطى، أصبح من الماضي. بدأ هذا المجتمع العمالي (الذي أتاح للكثير من الأفارقة الأميركيين فرصة للترقي الطبقي) بالانحسار منذ السبعينيات، غير أنّه، بعد “نافتا”، لم تعد الصناعات الباقية في أميركا مضطرة لاسترضاء عمالها بالرواتب والضمانات، أو حتى السماح لهم بتأسيس النقابات.
من هنا استنتج اقتصاديون، ذكّر بهم بول كروغمان أخيراً، بأنّ “اتفاقاً للتبادل الحر ينجح سياسياً ــ تحديداً ــ لأنه مؤذٍ للمجتمع”. نفهم أن هذا الكلام ليس مبالغة حين نراقب من يفاوض في هذه الاتفاقيات: من بين 600 مستشار من لجان مختلفة، يتواصلون مع وزارة التجارة الأميركية لرسم المعاهدات، ينتمي 550 منهم الى المصالح التجارية الخاصة، وخمسون مستشاراً فقط لتمثيل العمال والناشطين البيئيين وباقي الفئات. واذا نظرنا الى الاستثناءات التي جرى التفاوض عليها من التجارة الحرة (ابقاء التعرفة على السيارات اليابانية في اميركا لاكثر من عشرين سنة، الحفاظ على حق شركات الدواء الكبرى في احتكار منتجاتها لمددٍ طويلة، الخ) نعرف أن الشركات و”المصالح الخاصة” هي التي كانت تجلس على طاولة التفاوض، وقد صُممت المعاهدة على مقاسها.
يقول خبير قانوني في “سيدني مورنينغ هيرالد” إن “الشراكة” مهمة ليس لأنها تفتح الحدود، بل لأنها تصوغ “دستوراً” للتجارة العالمية، ومعايير (قانونية وبيئية وتنظيمية) ستصبح نموذجاً للمستقبل. هذه القواعد التنظيمية هي أهم ما في “الشراكة”، وفيها تتبدى المصلحة الحقيقية للشركات العابرة للدول. لم تعد هذه الرساميل تكتفي بفتح الحدود أمام التجارة، على طريقة القرن التاسع عشر، وهو ما حصل في التسعينيات؛ بل صارت تطمح الى الهيمنة على التنظيمات التي تحكم التجارة، ووضعها خارج سلطة الدول و”سيادتها”.
اضافة الى قوانين الملكية الفكرية، التي ستصبح موحدة وخارج سيطرة الدول، تنشئ المعاهدة نظاماً للتقاضي بين الشركات والحكومات يسمح لشركات خاصة بطلب تعويض من بلد لأن قراراً أو سياسة داخلية ما قد حرمتها ربحا متوقّعا (وهو مفهوم اشكالي قانونياً، وترفضه العديد من الدول)، وستكون قرارات التحكيم ملزِمة وغير قابلة للإستئناف. بتعبير آخر، هذه “شراكة” تنتزع جزءاً جديداً من سيادة الدول ومؤسساتها السياسية، برضى النخب الحاكمة، وتسلّم أربعين بالمئة من اقتصاد الكوكب الى سلطة “السوق” وممثليه. ولهذا السبب تحديداً، فإن الاتفاقية ستمرّ في الكونغرس، وغيره، بأكثرية مريحة.