Site icon IMLebanon

مطابع لبنان .. ضحية الحرب والتكنولوجيا

Books-Library
لطالما تميّزت بيروت في الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، بأنها منارة الشرق ومطبعته، إذ كانت العاصمة اللبنانية ساحة ثقافية ساهمت في تطوير قطاع المطابع، لدرجة أن عدد المطابع كان يفوق حاجة السوق. ولم تكن المطابع مكاناً لممارسة مهنة وحسب، بل شكّلت مدرسة وطنية، تعلم فيها كثيرون العمل النقابي وساهموا في معارك وطنية مطلبية.

صورة بيروت كمطبعة للشرق تبدلت خلال سنوات الحرب، وزادت تبدّلاً في مرحلة التسعينيات وصعود موجة التكنولوجيا التي أثرت بشكل كبير على سوق المطبوعات، فضلاً عن تراجع العمل النقابي في قطاع المطابع لناحية تنظيم العمال ومطالبتهم بحقوقهم.
“التكنولوجيا هي السبب الرئيسي لتراجع قطاع المطابع في لبنان”، وفق مدير الانتاج في مركز الطباعة الحديثة (تأسس في العام 1973) أحمد مهدي. فـ”التكنولوجيا، سهّلت العمل وبات في الإمكان طباعة كميات أكبر، إلا ان حجم الطلب لم يعد يتلاءم مع كلفة الطباعة. فعلى سبيل المثال كانت كلفة طباعة كتاب مدرسي تبلغ 10 آلاف ليرة وأصبحت اليوم بين الـ5 والـ7 آلاف، والمجلة كانت كلفتها 10 آلاف أصبحت اليوم 1500 ليرة تقريبا”، لكن مع ان الكلفة انخفضت، إلا أنّ “طباعة كميات قليلة تضاعف الخسارة وليس الربح. اما طباعة الكميات الكبيرة، مثل 100 ألف نسخة، فتتم في الصين أو إيطاليا أو في دول أخرى، حيث الكلفة أقل، لأن حجم الطلب في لبنان لا يتعدى الـ5 آلاف نسخة، ما يعني ان التكنولوجيا اصبحت عبارة عن سيف ذو حدين بالنسبة لقطاع الطباعة”، وفق مهدي.

انتشار الانترنت ساهم الى حد كبير في تراجع عمل المطابع، فبرأي المدير التنفيذي لمطبعة المتوسط (تأسست في العام 1972)، غسان شبارو، فإنّ الانترنت سهّل عملية انتشار الكتب مجاناً. ويلفت شبارو الى ان أزمة اقفال المعابر التي يواجهها لبنان، “أثّرت كثيراً على عملية تصدير المطبوعات، وأصبحنا ملزمين بالتصدير جواً بكلفة عالية جداً، أو بحراً بكلفة أقل، ولكن الباخرة تحتاج الى نحو شهرين لتصل الى مقصدها”. ويضيف: “أحياناً نلجأ إلى طبع الكتب في الدول العربية، كالسعودية والإمارات، وذلك يرتّب أكلافاً إضافية، كما يتوجب علينا توفير مكان للتخزين وفريق عمل للتوزيع”. ويؤكد شبارو أنّ عامل المنافسة دخل أيضا على خط تراجع سوق الطباعة، ففي الخارج “معظم اليد العاملة أجنبية وتتقاضى رواتب متدنية، كما أن الكهرباء مؤمنة 24 ساعة ما يخفف من الكلفة”.
التراجع الكبير الذي اصاب قطاع الطباعة، انعكس على العلاقات بين “أهله”، ان لجهة التنظيم النقابي، او التواصل والحفاظ على مصلحة أبناء المهنة. علماً بأنّه “لا إحصاء رسمياً لعدد المطابع، ولا للعاملين فيها”، بحسب ما يفيد به مصدر في مكتب نقابة الطباعة في لبنان. ويعيد رئيس نقابة عمال المطابع عبد الله غساني السبب، الى “الفوضى التي تضرب القطاع”، ويشير الى ان القطاع “كان يضم 1500 عامل مسجلين في النقابة قبل الحرب، وكان العدد غير الرسمي يبلغ 2500 عامل. وقد تراجع هذا القطاع بنسبة 50% بسبب خسارة الأسواق العربية نظرا للأحداث التي تشهدها منطقتنا. وبقيت السوق العراقية فحسب وهي تسجّل أيضا تراجعا طفيفا. ومن أصل 1500 عامل، تضم النقابة اليوم 100 عامل”.

تبدل أحوال مهنة الطباعة وانحسار الاهتمام بالمطبوعات، لم يروقا لأبو أحمد، الرجل الثمانيني، وابن منطقة رأس النبع، الذي نشأ على قراءة الصحف والكتب التي كانت تملأ شوارع بيروت، كما يقول. وبرأيه، فإن انحسار مهنة الطباعة هو “جريمة” بحق الثقافة. كما يعتبر أنّ “جيل التكنولوجيا لا يعرف العلاقة بين الورق والإنسان، فهناك متعة مفقودة اليوم، حيث لا يلمس القارىء الورقة، وهذا أمر مهم وممتع في عملية القراءة. فضلاً عن أهمية امتلاك مكتبة خاصة، وهذا مفقود بوجود الانترنت”.

ويذكر أبو أحمد ان “المطابع كانت تساهم بشكل مباشر وغير مباشر في توعية الناس، وكانت بيروت تعج بالأماكن التي يتاح للمرء فيها أن يقرأ ويتبادل المعلومات والأخبار، خاصة أخبار الثورات في العالم، وافكار الفلاسفة والمفكرين. وكانت المقاهي عبارة عن مراكز تبادل المعلومات، وكل ذلك بفضل وجود المطبوعات التي كانت تفرض وجود تفاعل بين الناس لإيصال المعلومة، على عكس ما هو سائد اليوم، لأن الانترنت يتيح نقل المعلومات دون تفاعل او احتكاك مباشر بين الاشخاص”.

الصورة القديمة للمطابع اختلفت كثيراً في الوقت الحاضر. فالمطابع الحديثة ليست سوى مراكز تجارية، أو مصانع تُنتج سلعاً، ولا يعنيها التواصل والتفاعل، طالما أن الربح هو المقصد الاساسي. أما اليد العاملة، تطغى عليها اليد الأجنبية، نظراً لكلفتها المتدنية مقارنة مع اليد العاملة اللبنانية، وبالتالي فإن المطابع الحديثة تفضل اليد العاملة الأرخص، إذ هي في الوقت عينه، أقل كلفة على رب العمل، لجهة دفع اشتراكات الضمان الاجتماعي، وأقلّ “خطراً” لجهة تحمل تبعات انتظام العمال في النقابات.