كتب ايلي الفرزلي في صحيفة “السفير”:
أرادت «السفير» من ندوة «نفطنا لنا» أن تكون الحجر الذي ربما يعيد تحريك المياه الراكدة في قطاع النفط الذي غرق في بحر المصالح المتناقضة.. وما يزال.
بدا جلياً أن أحداً لا يملك جواباً شافياً يطمئن اللبنانيين إلى المسار النفطي، الذي توقف منذ سنتين. الإجابة الوحيدة التي تتكرر في كل الاتجاهات أن السياسيين هم الذين يتحملون المسؤولية الكاملة عن الجمود. أما غاياتهم، فتلك تتوزع بشأنها التحليلات، لكنها تعود لتصب في الوادي نفسه: الفساد ثم الفساد، وفي أوجهه كافة. الحصص والمصالح هي الأساس، حتى لو أخذ النقاش أبعاداً تقنية وفنية.
وإلى أن ينزل الوحي على السياسيين، فإن «هيئة إدارة البترول» لا تنفك تسعى إلى تحضير الأرضية الصالحة للانطلاق، في حال قرر السياسيون إطلاق الصافرة. وفي هذا المجال، يسجل للهيئة، كما أعلن الخبير النفطي وليد الخدوري، انفتاحها على مناقشة قضايا القطاع على الملأ، بعكس ما يجري في كل الدول العربية حيث يعتبر النفط سراً من أسرار الدولة التي لا يجوز النقاش فيها.
وطرح القضايا الخلافية على الملأ، بدا أكثر ما ميز الندوة، علماً أن هذه القضايا ليست بسيطة كونها تؤثر على تحديد الرؤية المستقبلية للقطاع. في مداخلات الخبراء النفطيين، تأكيد على ضرورة وجود سياسة نفطية، تحدد بوضوح ماذا يريد لبنان من القطاع النفطي. هل يريد تحقيق الربح السريع، أو أن المطلوب رؤية شاملة لا تتوقف مع توقف ضخ النفط من الآبار البحرية، إنما تساهم في تنمية شاملة تفتح آفاقاً جديدة في الاقتصاد اللبناني، بما يخفف عن كاهل اللبنانيين مخاطر الاقتصاد الريعي.
تؤمن أو لا تؤمن
صحيح أن العلم يتحكم بالقطاع النفطي، لكن العلم لا يتحدث عن قواعد نفطية جامدة. لكل صاحب رأي ما يعزز نظرته من أمثلة وتجارب، بما يجعل السير في هذا الخيار أو ذاك أقرب إلى الإيمان. إما تؤمن أو لا تؤمن. إما تكون مع إنشاء الشركة الوطنية فوراً وإما تكون مع إنشائها عندما تكتشف كميات تجارية. إما تكون مع فرض أتاوات عالية على الشركات لضمان دخل ثابت للدولة وإما تخفض هذه الأتاوات تشجيعاً لهذه الشركات..
باختصار، لا يختلف القطاع النفطي عن قطاعات اقتصادية أخرى تتصارع فيها مدرستان، الأولى تصر على سيادة الدولة على القطاعات الحيوية، والثانية تعلي شأن الخصخصة على ما عداه..
كل ما يحد من سلطة السياسيين مرفوض. الشركة الوطنية تحد بشكل كبير من تدخلات السياسيين في القطاع، لذلك فإن قانون النفط لم يعطها حيزاً كبيراً، وإن اكتفى بالتأكيد أنه يمكن إنشاؤها بعد اكتشاف كميات تجارية من النفط. بعض من في «هيئة إدارة البترول»، ولاسيما منهم رئيس الهيئة كابي دعبول وعضو الهيئة وسام الذهبي، يعتبر أن إنشاء الشركة في هذا الوقت، لا جدوى منه. فالهيئة نفسها قادرة، في الوقت الحالي، على الحلول محل الشركة، ولاسيما في مراقبة عمل الشركات الأجنبية في مرحلة الاستكشاف، على أن تنشأ عندما يتبين وجود كميات تجارية تسمح للشركة الوطنية بدور رئيسي في عمليات الانتاج.
وجهة النظر الأخرى تتخطى الدور المباشر الذي تضطلع به الشركة في مجال الاستخراج. المطلوب أن تشكل ركناً أساسياً مواكباً لتطور القطاع ومن اللحظة صفر. فتكون شريكاً أو ممثلاً للدولة في التنقيب، ثم في الاستخراج، ويكون لها الدور المباشر في تحديد خطط الاستكشاف وتطوير الحقول وتحديد خطط الانتاج وخطط التسويق العالمي. كذلك، فإن المطلوب ان لا يقتصر دورها على الارتباط المباشر بمسألة استخراج النفط، إنما تتعداه لتعمل على تطوير القطاع بشكل شامل.. لا يضمر مع ضمور الثروة النفطية، إنما يكون قادراً على تأمين عمل مستدام للبنانيين، بغض النظر عن استخراج النفط من عدمه.
ليست الشركة هي الهدف بحد ذاتها. يفترض أن تكون، بحسب الخبير د.نقولا سركيس، جزءا من رؤية عميقة لمستقبل القطاع، تشمل، إضافة إلى الشركة، الشفافية والمصداقية. وتبدأ بوقف الانحرافات والتناقضات بين قانون النفط ومراسيمه التطبيقية؟
بين الفساد والنفط
معارضو إنشاء الشركة يتوقفون ملياً عند الخلافات التي يمكن أن تنشأ مع تعيين مسؤوليها. هم لم ينسوا بعد كيف شكلت «هيئة إدارة البترول». وهم أنفسهم يعتبرون أن تحويل الهيئة إلى هيئة ناظمة للقطاع لن يلقى قبولاً عند السياسيين، المتحسسين من أي هيئة تحد من صلاحياتهم، كما حصل مع هيئة إدارة قطاع الإتصالات التي ضربت كما مع هيئتي الطيران المدني والكهرباء اللتين لم تبصرا النور.
إذن، المطلوب أولاً إبعاد يد السياسيين عن القطاع الجنين. لذلك يصبح مفهوماً تحذير الوزير السابق شربل نحاس، الذي تحدث في الجلسة الختامية للندوة عن الشروع في استخراج النفط «قبل نجاح الحراك الشعبي في «قبع» التركيبة السياسية الفاسدة من مكانها». وهو كلام تكرر بأشكال مختلفة من قبل أكثر من متحدث، ومنهم الخبير النفطي ربيع ياغي، الذي ذكّر أن «البترول في لبنان براً أو بحراً ليس إقطاعية أو إرثاً لأحد بل هو ثروة ونعمة يتشارك اللبنانيون جميعاً في ملكيتها»، سائلاً: «كيف نحصن القطاع البترولي من شرور الفساد والأيادي السوداء وكيف نحمي هذا الأمل من جهالة أدعياء أبوَّته ومنتحلي الوصاية عليه»؟ اما عضو الهيئة ناصر حطيط، فقد اعتبر أنه إذا لم يؤد النفط إلى إحداث ثورة صناعية وعلمية واقتصادية كما حصل في أوروبا.. «فليبقَ الكنز في مخبئه في البحر».
بالنسبة لكثر، لا يمكن السير قدماً بالتنقيب قبل معالجة الاعتلالات الكثيرة التي يتضمنها القانون والمراسيم التطبيقية. الأساس بالنسبة للداعين إلى عدم السير بالقطاع وفق القواعد الحالية، هو: توحيد القانون بالنسبة للبحر والبر، إنشاء شركة بترول بأسرع وقت ممكن لتكون ذراع الدولة، فصل عقود الاستكشاف عن عقود الانتاج، إقرار القانون الضريبي على الأنشطة البترولية، مشاركة الدولة الفعلية في الإدارة وفي العمليات وتحديد الحد الأدنى لحصة الدولة بـ40 بالمئة، مع رفع الأتاوة إلى 12.5 بالمئة..
لا يستبعد الذهبي، إذا استمرت أسعار النفط بالانخفاض، أن لا يكون للبنان مصلحة في الاستخراج. لكنه حتى الآن ما يزال مصراً أن الأولوية المطلقة تبقى للبدء فوراً بالتنقيب، مشيراً إلى أن كل الاعتراضات والاختلافات في وجهات النظر قابلة للحل.
البدء بالتنقيب فوراً أو بعد حين صار له قواعد جديدة بعد ولادة الحراك المدني. في الندوة، كان الربط بين الحراك والقطاع النفطي جديداً على أهل القطاع، الذين يعرفون أن الآليات التقليدية لمكافحة الفساد لا تقل فساداً عن أهل السلطة. وإذا كان الحراك قد نجح في هز شبكة المصالح المستمدة من قطاع النفايات الذي لا تتخطى قيمته الـ500 مليون دولار، فالأكيد أن قطاع النفط الذي تتخطى قيمته الـ500 مليار دولار قد صار تحت مجهر الرقابة الشعبية، وهو ما يحتم على السلطة التعامل مع القطاع بشكل مختلف من الآن فصاعداً.