تمحور باراك أوباما نحو آسيا قوبل بانتقادات واسعة. في اللحظة التي تلفّظ فيها الرئيس الأمريكي بهذه العبارة، طالب الشرق الأوسط باهتمام أكثر.
الشكوك ينبغي أن تتراجع مع اتفاق هذا الأسبوع بشأن اتفاقية التجارة والاستثمار عبر المحيط الهادئ. هناك عقبات لا يزال ينبغي تجاوزها، لكن الاتفاق بين عشرات الدول المُطلّة على المحيط الهادئ يُشير إلى القوة الجغرافيا الاقتصادية.
هناك أيضاً المشهد عبر الطرف الآخر من التلسكوب. واشنطن ليست الطرف الوحيد في عملية إعادة الاستراتيجية التي تجري في آسيا ردّاً على صعود الصين. ربما ينبغي أن نتحدّث عن تمحور آسيا نحو واشنطن. لقد تم تذكيري بهذا خلال مجموعة دراسية لمدة أسبوع في الهند نظّمها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومؤسسة روبرت بوش الألمانية. الهدف من جدول الأعمال المُكتظ بالاجتماعات مع السياسيين وصنّاع السياسة والباحثين كان لمعرفة “ما تُفكّر فيه الهند”. بالنسبة إلى مجموعة من الأوروبيين، إجابة واحدة كانت مُحبطة بالتأكيد. صحيح أن الهنود يشترون الهندسة الألمانية والطائرات الفرنسية، لكن في لعبة سياسة القوى العُظمى، لا تلعب أوروبا إلا دوراً صغيراً. التأمل المهم محفوظ للصين والولايات المتحدة: الأولى يُنظر إليها باعتبارها تهديدا، والثانية، بصوت هادئ للغاية، باعتبارها حليفا لا غنى عنه. الأمران، بالطبع، مرتبطان.
ناريندرا مودي كان فوق كل شيء نشطاً على الساحة الدولية. رئيس الوزراء الهندي زار أكثر من 20 عاصمة أجنبية منذ توليه المنصب في أيار (مايو) من عام 2014. لقد تم تجديد العلاقات القديمة وتشكيل علاقات جديدة.
مودي لا يفتقر إلى الطموح. حيث أصبح شائعاً إطلاق اسم قرن المحيط الهادئ على القرن الحادي والعشرين. إنه يريد تغيير ذلك. بمعنى أنه ينبغي أن نتحدث عن قرن المحيط الهندي – الهادئ.
الرواية الرسمية تضع السياسة الخارجية في الهند على ركنين: الأول هو صلة لا مفر منها بين التنمية الاقتصادية والوزن الجغرافي السياسي، حيث يتباهى صُنّاع السياسة بأن الهند تنمو الآن أسرع من الصين المُتباطئة. وفي حين إن عدد السكان كبار السن هم الآن في ازدياد في الصين، فإن التركيبة السكانية في الهند تعد بطاقة الشباب. هذا عادل بما فيه الكفاية، لكن الاقتصاد الهندي مجرد جزء صغير من حجم الاقتصاد الصيني، ومواكبته تتطلّب بنية تحتية لائقة، واستثمارات أجنبية وتقنيات متطوّرة. وهي تحتاج إلى ذلك بكميات كبيرة. لذلك فإن كل غزوة من غزوات مودي في الخارج لديها بُعد اقتصادي. عندما ظهر الرئيس الصيني تشي جين بينج في البيت الأبيض أخيراً، مودي كان في كاليفورنيا يبيع الحلم الهندي إلى الشركات العملاقة في سيليكون فالي.
رئيس الوزراء الهندي ونظيره الياباني شينزو آبي يتشاركان منظر الرجل القوي للقيادة، لكن ما يزيد من عُمق العلاقة هو فهم مفاده أن اليابان والهند بإمكانهما التعامل معاً.
الركن الثاني هو الجوار. الزعماء السابقون كانوا حاسمين في تعاملهم مع البلدان المجاورة الأصغر. الطاقة التي كانت موجودة هناك، امتصتها دوامة من الصراعات مع باكستان.
أما نيبال، وسريلانكا، وبنجلاديش، وبوتان والبقية فقد كان يُنظر إليها على أنها تحتل مرتبة دنيا على سلم مصالح دلهي. مودي قام بتغيير الأمور. المواجهة المُضطربة فيما يتعلّق بكشمير مع باكستان ستكون دائماً مصدراً للتوتر، لكنها إن كانت تُنتج درجات متفاوتة من النجاح، يفهم منها أن القوى العُظمى تقوم بعمل جيد لتهدئة الاضطرابات في الحيز الخاص بضبط إيقاع تلك القضية.
الأكثر صمتاً في رواية السياسة الأجنبية الرسمية هو القلق بشأن طموحات الصين الإقليمية، حيث كانت بكين دؤوبة في خطب ود جيران للهند. استراتيجية تشي، حزام واحد وطريق واحد، محسوبة لجعل الصين القوة الآسيوية الأوروبية البارزة.
بالنسبة إلى دلهي، فإن إعادة فتح طرق الحرير إلى أوروبا واندفاع الصين نحو المحيط الهندي يبدو كأنه تطويق؛ وهذا يتم على أيدي بلد وقع بينه وبين الهند فيما مضى حرب بشأن الحدود المُتنازع عليها، وهو بلد يبقى صديقاً صدوقاُ لباكستان، هذا إن لم راعيا استراتيجياً، بلا مواربة لها. ينبغي لمودي تحقيق التوازن بين مثل هذه المخاوف والمشاركة الاقتصادية. الصين مصدر غير مُستغل من المعرفة الفنية بالاستثمارات والبنية التحتية، لكن طموحات بكين أيضاً توفّر السياق لتعميق روابط دلهي مع اليابان وأستراليا وبناء العلاقات الجديدة مع فيتنام والفلبين وإندونيسيا. الخيط الذي يربط هذه الشبكات هو السعي إلى تحقيق قوة مضادة في وجه بكين التي تريد فرض نفسها.
تمحور مودي نحو واشنطن هو جزء من نفس الصورة. الهند دائماً ستكون مُتناقضة بشأن الولايات المتحدة، حيث جزء منها لا يزال يشتاق “إلى الحكم الذاتي الاستراتيجي” الذي جاء مع قيادة حركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة.
الاعتزاز الغريزي يقول إن الهند لا يُمكن أن تُصبح الشريك الأصغر في أي نظام تحالف بقيادة الولايات المتحدة. العلاقة الوثيقة تاريخياً مع روسيا مهمة أيضاً؛ عادة ما ظل التعاون الاستراتيجي الوثيق مع موسكو صامداً حتى بعد انهيار الشيوعية.
مع ذلك، فإن الديمقراطية الأكبر في العالم تحتاج إلى الاستثمارات ومُعدّات الدفاع التي لا تستطيع توفيرها سوى الديمقراطية الأكثر تطوّراً في العالم، أي الولايات المتحدة، لأنها هي وحدها الضامن الأساسي لمحاولات الوقوف في وجه القوة الصينية.
التكامل الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية أصبح مُمكناً بفضل ضمانة أمن الولايات المتحدة الشاملة. الأمر نفسه ينطبق على أنظمة التحالف التي تظهر في آسيا: أي أن مصداقيتها تعتمد على الاتصال مع الولايات المتحدة.
أول رئيس وزراء في الهند، جواهرلال نهرو، ذكر ذات مرة أن السياسة الخارجية هي نتيجة السياسة الاقتصادية. وكان مُحقّاً. حلم مودي بقرن المحيط الهندي – الهادئ يعتمد على التحديث الاقتصادي.
التغيير في النظرة ملموس. بعد عقود من كونها دولة كبيرة مع وجهة نظر عالمية صغيرة، فإن الهند في عهد مودي تتشكّل لتصبح دولة مُستعدّة لإعادة صياغة ميزان القوة في آسيا.