جاك فارشي
مع وعود باستثمارات بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، تأمل بكين في إعادة تشكيل دول الاتحاد السوفياتي السابق في آسيا الوسطى، لكن استراتيجيتها تلك تتعارض مع طموح موسكو في اجتذاب الدول إليها مرة أخرى، من خلال اتحاد اقتصادي أوروبي – آسيوي.
مجموعة المباني الجديدة اللامعة المنتشرة داخل مشهد طبيعي قاحل من السهول المغبرة وحاويات الشحن المتآكلة تشكل مشهدا متنافرا. أحد تلك المباني، برج متلألئ مصنوع من الرخام والزجاج، فارغ إضافة إلى محل للسوق الحرة في الطابق الأرضي.
في المنطقة المجاورة، أحد المتاجر يبيع العسل الروسي وأحذية صينية للسيدات، وكلاهما معروضان بجانب بعضهما بعضا.
هذه هي خورجوس، الخط الفاصل بين الصين وقازاخستان. وفي حين إن الأمر قد لا يبدو مهما الآن، فإن لدى الصين طموحات لتحويل هذه النقطة الحدودية الموجودة في ما كان يسمى ذات مرة حافة الإمبراطورية الروسية، إلى بوابة جديدة نحو الغرب.
يقول هشام بيلماتشي، المدير التجاري لميناء جاف بني حديثا في المنطقة الحدودية، مصمم لتسريع نقل البضائع الصينية عبر منطقة كسيجيانج في طريقها إلى آسيا الوسطى أو أوروبا أو الشرق الأوسط “هنا يلتقي الشرق بالغرب. هذه هي نقطة الربط”.
تعتبر خورجوس واحدة فقط من مجموعة من المشاريع الممتدة عبر المنطقة، التي تهدف إلى المساعدة على تحقيق أحلام الصين بوجود طريق حرير جديد – وهو عبارة عن خطة تتلقى الدعم من قبل الرئيس تشي جين بينج، يمكن أن تفرض بثبات سلطة ونفوذ بلاده إلى أوروبا.
مع وعود باستثمارات بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، يمكن للاستراتيجية الصينية، إذا تم تحقيقها، إعادة تشكيل اقتصادات الاتحاد السوفياتي السابق في آسيا الوسطى، التي تعثرت بسبب هبوط أسعار السلع الأساسية والركود الاقتصادي في روسيا.
غير أن زيادة الاعتماد الاقتصادي على الصين في وقت يتسم بعدم اليقين حيال صحة اقتصادها، ليس أمرا شعبيا على صعيد شامل في دول آسيا الوسطى.
كما أن إطلاق حملة للتكامل الإقليمي وضعت بكين في مسار تصادمي مع موسكو، التي كانت تضغط على البلدان للانضمام لاتحادها الاقتصادي الأوراسي. كما أنها تثير أيضا المخاطر لبكين: في الوقت الذي تستثمر فيه الصين بشكل أكبر في هذه المنطقة الهشة المتاخمة لأفغانستان، تجد من الأصعب عليها مقاومة انجرارها إلى الشؤون السياسية والعسكرية.
يقول رافاييلو بانتوكسي، المتخصص في المنطقة في معهد الخدمات المتحدة الملكي “هذه هي إمبراطورية الصين الغافلة. إنها جزء من العالم، حيث من الواضح أنها تصبح أهم لاعب جيوسياسي. لا أعتقد أنهم أخذوا بعين الاعتبار ما يعنيه هذا على المدى الطويل”.
أصداء أجراس الإبل القديمة
قبل عامين، وقف تشي في عاصمة قازاخستان المستقبلية آستانا واستعاد ذكرى تشانج تشيان، الدبلوماسي الذي ساعد على فتح تجارة الصين مع العالم في القرن الثاني قبل الميلاد.
قال الزعيم الصيني “بينما أقف هنا وأستعيد ذكرى تلك الحقبة من التاريخ، أكاد أسمع تقريبا أصداء أجراس الإبل في الجبال، وأرى لفائف الدخان تتصاعد من الصحراء”. وصف قازاخستان كأرض السحر، ودعا إلى إنشاء حزام اقتصادي جديد على طول طرق التجارة القديمة.
وقال “اكتسب طريق الحرير القديم حيوية جديدة”.
يرى البعض الآخر أوجه تشابه مع فترة أكثر حداثة في التاريخ: الصراع على النفوذ بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية في القرن التاسع عشر.
وفي الوقت الذي تعمل فيه الصين على توسيع نفوذها في أجزاء من الاتحاد السوفياتي السابق، يمكن أن تصبح آسيا الوسطى محور تركيز “لعبة كبيرة” جديدة بين بكين وموسكو وربما إيران وتركيا والبلدان الغربية.
وفي الوقت الذي تنحسر فيه المصالح الغربية في المنطقة مع الانسحاب العسكري من أفغانستان، وتتقلص قدرة روسيا على الاستثمار بسبب الركود الاقتصادي فيها، قد تتحول اللعبة الكبرى في المنطقة لتصبح لعبة أحادية الجانب.
على مدى العقدين الماضيين، أصبحت الصين بهدوء القوة الاقتصادية البارزة في المنطقة، والآن يرحب عديد من حكومات آسيا الوسطى بآفاق الاستثمارات الصينية، على اعتبار أنها فرصتهم الأخيرة لدرء خطر الركود الذي يمكن أن يهدد الاستقرار السياسي فيها.
ارتفع حجم التجارة بين الصين ودول آسيا الوسطى الخمس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- قازاخستان وقيرغيزستان وطاجكستان وتركمانستان وأوزبكستان – من 1.8 مليار دولار في عام 2000 إلى 50 مليار دولار في عام 2013، وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي، قبل أن ينخفض بشكل طفيف وسط التراجع في أسعار السلع الأساسية. هذا يعني أن الصين تجاوزت روسيا في السنوات الأخيرة لتصبح الشريك التجاري الأكبر الوحيد في المنطقة.
يقول آجريس بريمانيس، المختص الاقتصادي لمنطقة آسيا الوسطى في البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، وهو مستثمر غربي رئيسي في المنطقة “إذا نظرت إلى احتياجات الاستثمار في المنطقة، ترى أن المشاركة الصينية مهمة جدا، على أقل تقدير، لأنها مهمة بشكل متزايد في جميع القطاعات، ولا يمكنك رؤية عاصمة غربية أو عاصمة روسية تحل مكانها”. في قازاخستان، تمتلك الشركات الصينية ما بين خمس وربع إنتاج النفط في ذلك البلد – أي نفس النسبة نفسها التي تمتلكها شركة النفط الوطنية. في تركمانستان، التي تمتلك رابع أكبر احتياطي للغاز في العالم، حلت الصين مكان شركة جازبروم الروسية باعتبارها المشتري المسيطر للغاز التركماني، مستأثرة بحدود 61 في المائة من الصادرات في العام الماضي. يعود كثير من هذا التحول إلى فضل خط أنابيب غاز مشترك بين الصين وآسيا الوسطى تم افتتاحه في عام 2009، الذي يربط اقتصادات المنطقة الغنية بالطاقة بطريق تصدير رئيسية غير خاضعة لسيطرة موسكو.
في بلدان المنطقة الأكثر فقرا، أصبحت الصين أيضا قوة اقتصادية. استثمرت الشركات الصينية في مصافي النفط ومصانع الأسمنت في قيرغزستان وطاجكستان، وفي الطرق والأنفاق عبر المنطقة.
البيانات المتعلقة بحجم الاستثمارات الصينية هي بيانات متفرقة، ذلك لأن كثيرا منها صادر على مستوى ثنائي بين مصارف الدولة الصينية، مثل بنك التنمية الصيني أو بنك إكسيم الصيني، وحكومات آسيا الوسطى أو الشركات التابعة للدولة.
في أحد الأمثلة، أخبر نائب وزير المالية الطاجيكي العام الماضي صحيفة فاينانشيال تايمز أن بكين ستستثمر مبلغ ستة مليارات دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة – وهو مبلغ يعادل ثلثي الناتج المحلي الإجمالي السنوي للدولة.
هذه الهيمنة الاقتصادية تعني أنه كثيرا ما يبدو أن الصين، وليس روسيا، هي الآن الراعي الأكثر أهمية لحكومات آسيا الوسطى. بعد سماح قازاخستان بالتعويم الحر لعملتها في شهر آب (أغسطس) الماضي، متسببة في تخفيض فوري للقيمة بأكثر من الخمس، كان على رأس أولوياتها طمأنة بكين.
يقول كايرات كيليمبيتوف، محافظ البنك المركزي “أين هي وجهة أول زيارة لرئيس قازاخستان بعد اتخاذ هذا القرار؟ الصين”.
عندما انخفضت احتياطيات البنك المركزي في طاجكستان، أفقر دول المنطقة، هذا الصيف، وقعت على اتفاقية مقايضة مع بنك الشعب الصيني قيمتها 3.2 مليار رنمينبي (500 مليون دولار).
لا يكون السفر عبر طريق الحرير الجديد سلسا دائما. في منطقة كانت من الناحية التقليدية تشعر بتقارب ثقافي أقوى مع روسيا وتركيا، كثيرا ما يكون السياسيون متشككين في الصين، حيث أدى اقتراح للصين إلى استئجار مساحة كبيرة من الأراضي للزراعة، إلى إثارة احتجاجات عامة نادرة في قازاخستان في عام 2010.
يحذر دوسيم ساتباييف، عالم سياسي قازاخي يترأس مجموعة تقييم المخاطر في مقرها في ألما أتي، قائلا “إن أي محاولة من قبل الصين لزيادة النفوذ في قازاخستان، ستوقظ مزيدا من المشاعر المناهضة للصين”.
الحل الوسط لدى موسكو
في حين يرى كثيرون طريق الحرير الجديد على أنه تشكيل للوجود الصيني في المنطقة أكثر من كونه خطة محددة، أثارت الجعجعة المحيطة به مشاعر الاستياء بين الذين يرون آسيا الوسطى كجزء من “نطاق نفوذ” روسيا. يقول تشاو هواشينج، مدير مركز دراسات روسيا وآسيا الوسطى في جامعة فودان، “إنه عندما تم إعلان استراتيجية طريق الحرير، اعتبرها المسؤولون الروس تحديا لمشروع التكامل الإقليمي الخاص بموسكو، أي الاتحاد الاقتصادي الأورو-آسيوي”.
ويضيف “قدمت الصين كثيرا من التوضيح. ترى الصين أن المشاريع تتطور بالتوازي، بطريقة تعاونية”.
في الماضي، عرقلت روسيا محاولات زيادة الرقعة لمجموعة إقليمية أخرى بقيادة الصين، أي منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم جميع دول آسيا الوسطى ما عدا تركمانستان.
مع ذلك، عندما زار تشي موسكو في شهر أيار (مايو) الماضي، وقع البلدان إعلانا بشأن التعاون بين الاتحاد الاقتصادي الأورو- آسيوي ومشروع طريق الحرير.
ويقول أليكساندر جابوييف، زميل أول في مركز موسكو كارنيجي، وهي مؤسسة فكرية، إن الصفقة كانت نتيجة لـ “مناقشات داخلية مؤلمة” في موسكو.
يقول المحللون “إن الاتفاق غير المعلن بين موسكو وبكين يبدو أنه ينص على أن روسيا ستتنازل عن هيمنتها الاقتصادية في آسيا الوسطى للصين، لكنها ستحتفظ بثقلها ونفوذها العسكري والأمني في المنطقة”.
يقول جابوييف “ما يأمله الكرملين هو تقسيم العمل بين موسكو وبكين في آسيا الوسطى. في هذا المخطط الكبير، ستكون الصين المحرك الرئيسي للتنمية الاقتصادية، بينما تبقى موسكو هي التي توفر الأمن القوي المهيمن”.
ربما تجد الصين أنه من الصعب عليها البقاء بعيدة عن المسائل الأمنية لأن مصالحها الاقتصادية تزداد في المنطقة. وقد بدأت بالفعل في تقديم بعض المساعدات العسكرية لقيرغزستان وطاجكستان.
يقول البروفيسور تشاو “على الرغم من أن هذا يعتبر مشروعا اقتصاديا، إلا أنه قد يخلق تأثيرا أو نفوذا سياسيا. أعتقد أن الصين ستشارك بشكل أكبر في المسائل الأمنية في المنطقة، لكن هذا لا يعني أن الصين ستشارك في هذه المنطقة عسكريا”.
ليو ياتشو، الجنرال في جيش التحرير الشعبي، وصف آسيا الوسطى بأنها “قطعة الكعك الغنية المقدمة للشعب الصيني اليوم كهدية من السماء” وذلك في مقال له في عام 2010، وهو مقال أصبح أشبه بالبيان الرسمي للسياسة التوسعية للصين في المنطقة.
يرى المحللون دافعين كبيرين وراء الزيادة الكبيرة في الاستثمارات الصينية في المنطقة التي بدأت في التسعينيات.
أولا بسبب تضاعف استهلاك السلع الأساسية في الصين، كانت آسيا الوسطى مصدرا قريبا لإمدادات النفط والغاز واليورانيوم والنحاس الذهب.
ثانيا، أرادت بكين التعاون من قبل الدول المستقلة حديثا للحفاظ على منطقة كسينجيانج المضطربة تحت السيطرة. لدى سكان كسينجيانج الأصليين من الإيجور كثير من أوجه التشابه مع ثقافات ولغات وديانة سكان آسيا الوسطى، وهنالك أقلية كبيرة من الإيجور في المنطقة.
يكتب الجنرال ليو عن الصلات الثقافية بين تشينجيانج وشعوب آسيا الوسطى، مشيرا إلى أن “العامل المفيد هو أنهم جميعا يجنون فوائد عظيمة من التعاون الاقتصادي مع الصين”.
مسار جديد للسوق
مع تدشين مشروع طريق الحرير الجديد، يرى المحللون تحولا في الاستثمارات نحو البنية التحتية وقطاعات أخرى. يقول دينج تشياوتشينج، مدير دراسات آسيا الوسطى في معهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة، وهو عبارة عن مركز فكري مرتبط بالحكومة “إذا كانت الاستثمارات الصينية موجهة في الماضي نحو قطاعي الغاز والنفط، فستكون الآن في مجالات البنية التحتية والصناعة والزراعة والسياحة وغيرها من المجالات”.
في خورجوس، المعبر الحدودي بين الصين وقازاخستان، يصبح هذا التحول حقيقة واقعية، حيث تمتد صفوف من السكك الحديدية الجديدة اللامعة لمسافات، ومستعدة للتعامل مع أحجام متزايدة من البضائع الصينية.
يتفاخر بيلماتشي بأنه بإمكان فريقه نقل حمولة قطار من البضائع من قطار صيني إلى قطار من قازاخستان – السكك الحديدية للبلدين ذات أحجام مختلفة – في غضون 47 دقيقة فقط.
استثمرت شركة السكك الحديدية الحكومية، قازاخستان تيمر زولي (كي تي زي)، مبلغ 245 مليار تينج (900 مليون دولار) لبناء الميناء الجاف، الذي بدأ عملياته التشغيلية في شهر آب (أغسطس) الماضي، وافتتح رسميا أخيراً.