IMLebanon

كردستان العراق فشل مثال آخر للاقتصاد الريعي

KurdistanInvest3
رستم محمود
على رغم تحقيق القوى العسكرية في إقليم كردستان العراق نتائج نوعية في محاربتها قوى «داعش» الإرهابية، وعلى رغم بقاء غالبية مدن الإقليم وبلداته الداخلية في معزل عن العمليات العسكرية التي تجري في الجبهات، يمكن ملاحظة نسبة كبيرة من شُبان الإقليم ضمن قوافل المهاجرين الشرق أوسطيين نحو أوروبا. هم ينتمون بغالبيتهم إلى الطبقة الوسطى والعليا من المجتمع الكردي العراقي، من الذين لا يستطيعون الانخراط في العمليات العسكرية، والذين انهارت مشاريعهم الصغيرة وتحطّمت مداخيلهم الاقتصادية التي اعتادوا على تحصيلها في سهولة بالغة خلال العقد الماضي كله.
هؤلاء الشبان الذين كانوا الجيل الأول من الذين استفادوا من نتائج الاستقرار السياسي والاقتصادي في الإقليم الكردي، هذا الاستقرار الذي كان مستعصياً منذ اندلاع الثورات الكردية المسلّحة ضد السُلطة المركزية منذ 1961، واستمر حتى بُعيد استقلال الإقليم عن السلطة المركزية عام 1991، عبر أشكال من الحروب الإقليمية والمحلية وانقسامات الإقليم لإدارتين سياسيتين.
هذا الاستقرار النسبي للإقليم الكردي، ترافق مع تدفّق واردات مالية ضخمة، من حصة الإقليم من الموازنة المركزية، المُحتسبة بمقدار 17 في المئة من مجموع الموازنة الكلية للحكومة المركزية، وهو ما شكل قفزة في عائدات الإقليم، أوجدت «بحبوحة» اقتصادية واضحة. وتُشير الأرقام العراقية الخاصة بالنفط فحسب، إلى أن عائدات العراق من النفط كانت في الفترة الفاصلة بين 2006 و2012 فقط 551 بليون دولار، ما يعني أن حصة الإقليم خلال هذه السنوات كانت قرابة 100 بليون دولار، تُضاف إليها قرابة 20 في المئة من عائدات العراق غير النفطية، أي أن حصة الإقليم قد تقارب 120 بليون دولار. ما يعني أنها لا تقل عن قرابة 250 بليون دولار كحساب وسطي للعائدات بين 2003 و2015، مع أخذ القيمة الحقيقة للدولار خلال هذه السنوات.
ولأسباب معقدة للغاية، سياسية وحزبية وثقافية، ولحسابات خاصة بالنُخبة السياسية الحاكمة للإقليم، أُنفقت تلك الأموال الضخمة بثلاث طرق أو مسالك متراكبة، تشكل مجتمعة نوعاً تقليدياً من الاقتصادات الريعية، تُعتبر الدولة – السلطة فيه مصدراً أول وشبه وحيد للمال، لا تحتاج معه إلى أي عائدات متأتية من الناتج المحلي. ثم تنثر جزءاً من هذه الأموال على «المواطنين – الرعايا» بنسب متفاوتة، تستحوذ عبرها على ولائهم السياسي وخياراتهم الاجتماعية.
الجزء الأعظم من تلك الأموال ذهب إلى إعادة هيكلة الأجهزة البيروقراطية في الإقليم، بسمتي التضخم غير المعقول، والولاء السياسي لأحد الحزبين المسيطرين. فأعداد الموظفين غير المُشتغلين في أي دائرة بيروقراطية حكومية في الإقليم، كانت أضعاف ما تحتاجه تلك المؤسسات. وكان الدافع الى ذلك بوضوح، رغبة أحد الحزبين الحاكمين في الهيمنة السياسية على الحياة الاقتصادية والبيروقراطية عبر إدخال أكبر قدر من المُناصرين إلى هذه المؤسسات.
ووفق الأرقام البرلمانية العراقية، تُقدَّر أعداد موظفي الإقليم بحوالى 682 ألف موظف، وهو رقم لا تقبل به حكومة الإقليم، إذ تصر على أن موظفي الإقليم هم بحدود 1.7 مليون موظف، تطالب لهم بــرواتب شهــرية مـــن الحكومة المركزية. وهي أرقام تُشكل أكبر مستويات التضخم الوظيفي على مستوى العالم، حتى لو أخدنـــا بالرقم الأولي «المتواضع». إذ ما حاجة قرابة خمسة ملاييـــن مواطن إلى 700 ألف موظف، أي بمعدل يقارب موظفاً واحداً لكل سبعة مواطنين، ما يتجاوز أكثر بلدان التضخم الوظيفي في العالم، ففي مصر مثلاً لا يتجاوز المُعدل موظفاً إلى 14 مواطناً.
وأُنهِك جزء ضخم من تلك الأموال في عملية الفساد واسعة الانتشار، تلك التي رفعت النُخبة المالية الحديثة الواسعة الثراء في الإقليم. هذه الطبقة التي كانت – كما في تجارب عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية – على تآلف وتشابك وتداخل مع النُخب السياسية الحاكمة وجزءاً منها. فغالبية القطاعات والمشاريع الاستثمارية الكُبرى، كانت ولا تزال حكراً على هذه النُخبة من المتحصلين على امتيازات خاصة متأتية من مواقعهم العائلية والسياسية.
في الدرب نحو ذلك، تحطم القطاع الزراعي التاريخي التقليدي، الذي كانت عماده شبكة الأرياف الكُردية الخضراء، فهاجر ملايين الريفين إلى مُدن الإقليم وبلداته، التي تضخم حجم بعضها عشرات المرات، من دون أن تملك السلطات الحاكمة أي خطة استراتيجية للتحول إلى اقتصاد المعرفة الصناعي، بل أعادت استيعاب هؤلاء القرويين عبر هضمهم في الاقتصاد الخدماتي الزبائني للأحزاب الحاكمة. هذا الاستيعاب ما لبث أن انهار مع أول منغص اقتصادي، وردف بعشرات الآلاف من الشُبان موجات المهاجرين.