تشارلز كلوفر ولوسي هورنبي
“تمتلئ صوامع الحبوب في جميع المدن بالاحتياطيات، والخزائن مليئة بالكنوز والذهب، الذي تبلغ قيمته التريليونات”، حسبما كتب سيما تشيان، المؤرخ الصيني الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. “هناك الكثير جدا من المال، حيث إن الحبال المستخدمة لربط القطع المعدنية معا اهترأت وانقطعت، يا له من مبلغ كبير لا حصر له. صوامع الحبوب في العاصمة تتجاوز سعتها الحد وبالتالي تصبح الحبوب تالفة وغير صالحة للأكل”.
كان يصف الفائض الخيالي لأسرة هان، وهو عصر كان يتسم بأول توسع صيني إلى الغرب والجنوب، وتأسيس طريق التجارة الذي أصبح يعرف لاحقا باسم طريق الحرير، الذي امتد من العاصمة القديمة، تشيان، حتى روما القديمة.
حركة سريعة عبر الزمن، بعد ألف أو ألفي عام، يأتي الحديث نفسه عن التوسع في الوقت الذي تزداد فيه فوائض الصين مرة أخرى. الآن لا توجد أي حبال لربط احتياطياتها من العملة الأجنبية البالغة أربعة تريليونات دولار – أكبر احتياطيات في العالم – إضافة إلى صوامع تفيض بالمخزون؛ لديها فوائض هائلة من العقارات والأسمنت والفولاذ.
بعد عقدين من النمو السريع، تنظر بكين مرة أخرى خارج نطاق حدودها بحثا عن فرص استثمارية وتجارية، ولتحقيق ذلك تعود إلى أيام العظمة الإمبراطورية السابقة وتستخدم التشبيه المجازي المألوف “طريق الحرير”. إنشاء نسخة جديدة لطريق التجارة القديم ظهر على شكل مبادرة سياسة خارجية فارقة للصين في ظل رئاسة تشي جينبينج.
تقول فاليري هانسن، أستاذة التاريخ الصيني في جامعة ييل: “إنه واحد من المصطلحات الجديدة التي يتذكرها الناس من دروس التاريخ التي لا تتضمن سلطة ثابتة (…) وهذه تحديدا هي الروابط الإيجابية التي يريد الصينيون التأكيد عليها”.
طموح كبير
إذا أخذنا المجموع النهائي لالتزامات الصين بالقيمة الاسمية، فمن المتوقع أن يصبح طريق الحرير الجديد أكبر برنامج للدبلوماسية الاقتصادية منذ خطة مارشال بقيادة الولايات المتحدة، الخاصة بجهود إعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب في أوروبا، التي شملت عشرات البلدان بمجموع سكان يزيد على ثلاثة مليارات شخص. ويوضح الحجم وجود طموح ضخم. لكن على خلفية وجود اقتصاد متعثر وقوة عسكرية متزايدة، يتخذ المشروع أهمية كبيرة كوسيلة لتحديد مكانة الصين في العالم وعلاقاتها – المتوترة أحيانا – مع جيرانها.
من النواحي الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، تستخدم بكين المشروع للتأكيد على دورها القيادي الإقليمي في آسيا، بحسب ما يقول المختصون. وبالنسبة لبعضهم، يحدد المشروع رغبتها في إيجاد نطاق نفوذ جديد، وهو نسخة العصر الحديث من اللعبة الكبرى في القرن التاسع عشر، حين تعاركت روسيا وبريطانيا من أجل السيطرة في آسيا الوسطى.
يقول فريدريك وو، الأستاذ في كلية راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة: “كان طريق الحرير جزءا من التاريخ الصيني. يعود تاريخه إلى أسرتي هان وتانج، وهما اثنتان من أعظم الإمبراطوريات الصينية. أما المبادرة فهي تذكير في الوقت المناسب بأن الصين في ظل الحزب الشيوعي تعمل على بناء إمبراطورية جديدة”.
وفقا لمسؤولين سابقين، بدأت حياة الرؤية الكبرى لطريق الحرير الجديد بشكل متواضع في أحشاء وزارة التجارة الصينية. حيث كانت تبحث عن وسيلة للتعامل مع الإفراط الشديد في قطاعي الفولاذ والصناعة التحويلية، بدأ مسؤولو التجارة بالتفكير في خطة لزيادة التصدير. في عام 2013، حصل البرنامج على أول تأييد عالي المستوى عندما أعلن الرئيس تشي عن “مشروع طريق الحرير الجديد” خلال زيارة له إلى كازاخستان.
ولأن الرئيس كرس كلمته الرئيسية الثانية للتحدث عن الخطة في آذار (مارس) الماضي – مع تصاعد المخاوف المتعلقة بالتباطؤ الاقتصادي – تسارعت الخطة لتصبح سياسة مهمة واكتسبت اسما أكثر أهمية: “حزام واحد، طريق واحد”. الحزام يشير إلى طريق التجارة البري الذي يربط آسيا الوسطى مع روسيا وأوروبا. ومن الغريب أن الطريق هو إشارة إلى الطريق البحري عبر المحيط الهادئ الغربي والمحيط الهندي.
في بعض البلدان تدفع بكين بابا مفتوحا. التجارة بين الصين والدول الخمس في آسيا الوسطى – كازاخستان وقيرغيزيستان وطاجيكستان وتركمنستان وأوزبكستان – توسعت بشكل جذري منذ عام 2000، لتصل إلى 50 مليار دولار في عام 2013، وفقا لصندوق النقد الدولي. وتريد الصين الآن بناء الطرق وخطوط الأنابيب اللازمة لتسهيل الوصول إلى الموارد التي تحتاجها لمواصلة تنميتها.
بدأ الرئيس تشي بتقديم المزيد من التفاصيل حول الخطة في وقت سابق من هذا العام، مع إعلانه عن مبلغ 46 مليار دولار على شكل استثمارات وخطوط ائتمان في ممر اقتصادي مخطط له بين الصين وباكستان، ينتهي في ميناء جوادر المطل على بحر العرب. وفي نيسان (أبريل)، أعلنت بكين عن خطط لضخ 62 مليار دولار من احتياطياتها من النقد الأجنبي الذي تحتفظ فيه “مصارف السياسة” الثلاثة المملوكة للدولة، التي تمول مشروع توسيع طريق الحرير الجديد. وبعض المشاريع التي يجري التخطيط لها منذ الآن، يبدو أن اختيارها للمشاركة في المخطط الجديد تم من قبل البيروقراطيين ورجال الأعمال الذين يسعون لربط خططهم بسياسة الرئيس تشي.
يقول أحد الدبلوماسيين الغربيين: “إنهم فقط يضعون شعارا جديدا على الأشياء التي كانوا يريدون تحقيقها منذ فترة طويلة”.
وبحسب سكوت كينيدي، نائب مدير مركز الدراسات الاتسراتيجية والدولية في واشنطن: “إنها مثل شجرة عيد الميلاد. بإمكانك تعليق الكثير من أهداف السياسة عليها، لكن ما من أحد أجرى أي تحليل اقتصادي مناسب. المال الحكومي الذي يستثمرونه ليس كافيا، ويأملون في جلب رؤوس أموال القطاع الخاص، لكن هل يريد القطاع الخاص الاستثمار؟ هل سيحقق أرباحا؟”.
الاقتصاد الكلي
فضلا عن تقديم لمحة عن طموحات الصين، يفتح مشروع طريق الحرير الجديد نافذة على كيفية صناعة سياسة الاقتصاد الكلي في بكين – غالبا من دون تفكير أو اهتمام، مع انطلاق البيروقراطيين لتقديم عبارات غامضة وأحيانا متناقضة من على بروجهم. يقول مسؤول صيني سابق: “جزء من هذا يتم من أعلى لأسفل، وجزء منه يتم من أسفل لأعلى، لكن لا يوجد أي شيء في الوسط حتى الآن”.
يقول بول هاينل، مدير مركز كارنيجي – تشينجوا في بكين: “بقية البيروقراطية تحاول اللحاق للوصول إلى المكان الذي وضع فيه الرئيس تشي الراية. هذا شيء يعلن عنه الرئيس تشي، ومن ثم على البيروقراطية أن تفهم شيئا منه. ينبغي لهم وضع النقاط على الحروف”.
ظهرت بعض القرائن في آذار (مارس) عندما نشرت لجنة الإصلاح والتنمية الوطنية، هيئة التخطيط المركزية في الصين، وثيقة بعنوان “الرؤى والإجراءات بشأن عملية البناء المشتركة للحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”. تقدم الوثيقة قدرا كبيرا من التفاصيل في بعض المجالات – مثل معارض الكتب التي سيتم تنظيمها – لكنها غير مكتملة في بعض آخر، مثل أي الدول ستكون مشمولة. بيرو وسيريلانكا وحتى المملكة المتحدة من البلدان المشمولة في بعض الإصدارات، لكنها غير مشمولة في بعض الآخر.
على أية حال، يبدو أن هناك قائمة كاملة سيتم تشكيلها. في 28 نيسان (أبريل)، أعلنت وزارة التجارة أن بلدان طريق الحرير تمثل 26 في المائة من تجارة الصين الخارجية، وهو رقم إحصائي دقيق بشكل ملحوظ. لكن لم تتم الإجابة عن طلب “فاينانشيال تايمز” الحصول على مزيد من التفاصيل الأكثر تحديدا حول قائمة البلدان المشمولة.
أيضا، لا توجد حتى الآن أية إشارة حول كيفية إدارته – من خلال بيروقراطيتها، أو عن طريق إدارات منفصلة في وزارات مختلفة ومصارف سياسة. وأن الحكومات الأجنبية والمصارف متعددة الجنسيات تتابع بصبر نافد التصريحات المبهمة الصادرة من بكين لفهم معناها، لم يعد الغموض والالتباس غير ملحوظين من الآخرين.
يقول أحد الدبلوماسيين من دولة مجاورة: “إذا أردنا التحدث عن مشروع طريق الحرير، لا نعرف بمن نتصل”.
في الوقت الذي تتوسع فيه مصالح الصين الاقتصادية في الخارج، من المحتمل أن تضطلع أجهزتها الأمنية الضخمة والأجهزة العسكرية بدور إقليمي أكبر. لا تمتلك الصين أي قواعد عسكرية خارجية وتصر بشكل ثابت على أن لا تتدخل في السياسة الداخلية لأية دولة. لكن مشروع قانون لمكافحة الإرهاب يشرع لأول مرة نشر الجنود الصينيين على أرض أجنبية، بموافقة الدولة المضيفة.
وتحرص القوة العسكرية الصينية أيضا على الحصول على نصيبها من السخاء المالي والسياسي الذي يرافق تطور مشروع طريق الحرير الجديد. ويقول أحد المسؤولين الأمريكيين السابقين إن أحد كبار الجنرالات في جيش التحرير الشعبي أخبره أن استراتيجية “حزام واحد، طريق واحد” قد يكون لها “عنصر أمني”.
والمشاريع في المناطق غير المستقرة سوف تختبر لا محالة سياسة الصين في تجنب المشاحنات الأمنية في الخارج. وقد خصصت باكستان عشرة آلاف جندي لحماية مشاريع الاستثمار الصينية، بينما في أفغانستان، عملت القوات الأمريكية حتى الآن على حماية منجم نحاس تستثمر فيه الصين.
سلسلة اللؤلؤ
وأدى بناء موانئ في بلدان مثل سريلانكا وبنغلادش وباكستان إلى طرح بعض المحللين لتساؤلات حول ما إذا كان الهدف النهائي للصين هو المرافق اللوجستية البحرية ذات الاستخدام المزدوج، التي يمكن إدخالها للخدمة لمراقبة الممرات البحرية، وهذه استراتيجية يطلق عليها اسم “سلسلة اللؤلؤ”.
إن الحصول على ثقة الجيران الحذرين بما فيهم فيتنام وروسيا والهند، ليس أمرا محسوما، ويتم تقويضه باستمرار من قبل استعراض القوة المطرد للصين في أماكن أخرى. في بحر الصين الجنوبي، مثلا، زادت المواجهات البحرية بسبب المطالبات البحرية العدوانية لبكين.
ويبدو أن نظرية لينين بأن الإمبريالية يحركها الفائض الرأسمالي فيها، على نحو غريب، شيء من الصحة في واحدة من آخر البلدان اللينينية (ظاهريا) في العالم. فليس من قبيل الصدفة أن استراتيجية طريق الحرير تأتي في أعقاب طفرة استثمارية أدت إلى طاقة مفرطة استلزمت البحث عن أسواق جديدة في الخارج.
يقول ميلر: “نمو الإعمار آخذ في التباطؤ ولا تحتاج الصين لبناء كثير من الطرق السريعة والسكك الحديدة والموانئ الجديدة، لذلك عليهم البحث عن بلدان أخرى تفعل ذلك. أحد الأهداف الواضحة هو الحصول على المزيد من العقود لشركات الإنشاءات الصينية في الخارج”.
مثل خطة مارشال، تبدو مبادرة طريق الحرير الجديد مصممة بهدف استخدام الاتفاقيات الاقتصادية وسيلة لمعالجة مواطن الضعف الأخرى. الحدود الغربية للصين وجيرانها في آسيا الوسطى هم موطن الاحتياطيات الضخمة من النفط والغاز. منطقة شينجيانج، التي تضم بعض احتياطيات الطاقة الأكبر في الصين، المهمة لمشروع طريق الحرير، هي أيضا موطن الإيجور المسلمين المستائين، الذين يعتبرون أتراكا من الناحية الثقافية، وأكثر فقرا من مواطني الساحل الصيني، ويسعون للانفصال عن الصين. وكانت المنطقة مسرحا لاندلاعات عنف خطيرة في السنوات الأخيرة.
الاندفاع إلى آسيا الوسطى سوف يملأ جزئيا الفراغ الذي خلفه انسحاب موسكو بعد انتهاء الحرب الباردة، يليه انسحاب واشنطن العسكري من أفغانستان العام المقبل. مع قول بكين إنها تواجه خطر الإرهاب المتزايد، ستكون إحدى أولوياتها هي تحقيق الاستقرار في المنطقة عموما.
لكن ذلك يورث الصين مشكلة البيضة والدجاجة نفسها التي ابتليت بها الولايات المتحدة في محاولاتها “بناء الدول” – عليها أن تتساءل ما إذا كان الأمن والاستقرار شرطين مسبقين لتحقيق التنمية الاقتصادية، أو ما إذا بإمكانها، كما تعتقد بكين فيما يبدو، تهدئة الصراعات المحلية من خلال بحر من الإنفاق على الاستثمارات والبنية الأساسية.
مكافحة التطرف
إذا لم يثبت هذا النهج نجاعته سوف تواجه الصين بعض البدائل القاتمة – إما التخلي عن المشروع، وإما التعرض لخطر التورط في التزامات أمنية وسياسة محلية. وأوضحت الصين أنها لا تريد أن تحل محل الولايات المتحدة في أفغانستان ولا ترى نفسها رجل شرطة إقليمي. يقول جيا جينجينج، المختص في جنوب آسيا في جامعة رينمين في بكين: “لن تقع الصين في الأخطاء نفسها”.
ويرى مختصون استراتيجيون في بكين أن التنمية الاقتصادية ستعمل على إزالة جاذبية الإسلام الراديكالي في الصين وباكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى. لكن النقاد يلاحظون أن السياسات غير الحساسة ثقافيا، والوجود الأمني الهائل، والاستراتيجيات الاقتصادية التي تنفع المجتمعات الصينية على حساب السكان المحليين، عملت حتى الآن على تصعيد التوترات في شينجيانج، المنطقة الصحراوية التي يوجد فيها 22 في المائة من احتياطيات النفط الصيني و40 في المائة من مخزونها من الفحم.
الطرق وخطوط الأنابيب عبر باكستان وميانمار سوف تسمح في النهاية للصين بأن تتجنب ضعفا استراتيجيا آخر – نقطة تفتيش مضيق ملقا الذي يمر من خلاله نحو 75 في المائة من وارداتها النفطية. ومنذ الآن تصل نصف كمية الغاز الطبيعي إلى الصين برا من آسيا الوسطى، بفضل استراتيجية مكلفة لأسلاف الرئيس تشي تقضي بخفض الاعتماد على الواردات المنقولة بحرا.
وفي حين أن بعض الجيران سوف يرحبون بالاستثمارات، إلا أن من غير الواضح إلى حد ما إن كانوا سيرغبون في الطاقة الفائضة الموجودة لدى الصين. كثير من هذه البلدان تعاني بطالة ومعامل صلب محلية لا تنتج بكفاءة، أو لديها طموحات لتطوير صناعتها الخاصة بدلا من استيراد صناعة بلد آخر.
الاستثمارات واسعة النطاق يمكن أيضا أن تستثير مخاوف حول فتح بوابات السد أمام الهيمنة الاقتصادية الصينية – مثلما فعلت في ميانمار وسريلانكا – وأمام النفوذ السياسي المرتبط بها. لكن الصين تأمل في أن يشكل إغراء الإنفاق الهائل حافزا كبيرا للغاية على نحو يجعل الجيران غير قادرين على مقاومته.
يقول توم ميلر، من شركة جافيكال دراجونومكس للاستشارات في بكين: “ليس لديهم (أي بكين) مقدار كبير من القوة الناعمة، لأن قلة من البلدان هي التي تثق بهم. وهم إما لا يستطيعون، وإما لا يريدون استخدام القوة العسكرية. ما لديهم هو كميات ضخمة من المال”.