لطالما شكلت العلاقة بين الزراعة والفقر في كل دول العالم، وحدة لا تنفصل، إذ ان الزراعة تعتبر من أمهات الأعمال وأمهات القطاعات الانتاجية في الوجود البشري. ومع تطور شكل التجمعات البشرية والعلاقات الانتاجية والتبادلية بين البشر، كان القطاع الزراعي محط قياس لتبيان تقدم او تخلف المجتمع او الفرد.
وفي العصر الحديث، مازال القطاع الزراعي يحتفظ بصورته المؤثرة في حجم الناتج المحلي وفي تحديد تطور أي بلد او تخلفه، نظراً الى ما يقدمه هذا القطاع من تغطية لإحتياجات أغلب سكان الدول. وخاصة دول العالم الثالث التي يعتاش أغلب سكانها من الزراعة، وان على مستوى الإكتفاء الذاتي. وهذا الاعتماد أدى عبر السنين الى ربط قوة القطاع الزراعي بإرتفاع او انخفاض الفقر والجوع. ونظراً لأهمية هذا القطاع، أفردت الأمم المتحدة جناحاً للإهتمام بالقطاع على مستوى عالمي، فكان تشكيل منظمة الأغذية والزراعة “الفاو”. وبرغم أهمية القطاع، الا ان مغريات العمل المدني من جهة، وتراجع اهتمام دول العالم الثالث، ومنها لبنان، بقطاع الزراعة، أدى الى نزوح ابناء القطاع بإتجاه المدن، وانشغالهم بأعمال قد لا تدر عليهم الربح ذاته الذي كانت تدره الزراعة في الريف، الا ان التواجد في المدينة يفتح المجال امام خلق فرص عمل اكثر.
وفي لبنان لا تلعب الزراعة أي دور في جذب الناس اليها، ويُستثنى من ذلك كبار الملاكين والمستثمرين. ومع ان معدلات الجوع في لبنان لا تصل الى مراتب مرتفعة مقارنة بالكثير من دول العالم الثالث، الا ان هروب ابناء الريف من الزراعة يعود بحسب رئيس جمعية المزارعين في لبنان انطوان حويك، الى “غياب دعم الدولة، وتحديداً لجهة عدم تأمينها للبنى التحتية اللازمة للإستثمار في القطاع”، ويضيف حويك في حديث لـ “المدن” ان “عدم مساعدة الدولة للمزارعين في تصريف انتاجهم”، ويلفت النظر الى ان “ازمة اقفال المعابر البرية، والبحث عن التصدير عبر البحر، ادى الى نفور الناس من هذا القطاع”.
واللافت، ان أصحاب القرار يعترفون بأن هناك “خللاً تنموياً، ادى الى تدني نسبة الذين يعتمدون على القطاع الزراعي في معيشتهم الى نحو 15% من اللبنانيين”، على حد تعبير وزير الزراعة أكرم شهيب، الذي مثّل رئيس الحكومة تمام سلام خلال الاحتفال بيوم الاغذية العالمي للعام 2015، في المعهد الوطني للادارة، تحت عنوان “الحماية الإجتماعية والزراعة: تقويض الحلقة المفرغة للفقر الريفي”. واشار شهيب الى ان القطاع الزراعي “لا يساهم الا بنسبة 7% من الناتج المحلي”.
ولا تنتهي ازمة القطاع الزراعي، عند هذا الحد، اذ ان تدفق النازحين السوريين الى لبنان، زاد بحسب التقارير الرسمية للدولة اللبنانية، وتقارير البنك الدولي، الضغط على القطاع الزراعي، خاصة وان اغلب النازحين تمركزوا في مناطق الاطراف، التي تعاني أساساً من التهميش والفقر والحرمان، وبخاصة قرى عكار والبقاع. وقد أكد ممثل منظمة الفاو في لبنان، موريس سعادة، على أن “تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين بسبب الأزمة في سوريا قد ساهم في ازدياد الفقر في المناطق الريفية. وبالرغم من أن المجتمعات المضيفة استفادت من تمويل الدول المانحة الا ان التمويل الموجه نحو الزراعة يجب أن يكون حجر الزاوية للتخفيف من حدة الفقر في المناطق الريفية”.
إشارة سعادة الى اهمية تركيز المساعدات الدولية على قطاع الزراعة، دعمها مدير عام منظمة الفاو، غراتزيانو دا سيلفا، عبر القول بأن “برامج الحماية الاجتماعية تنجح في تخفيف الجوع والفقر بفعالية. ففي عام 2013 وحده، ساعدت هذه التدابير على انتشال نحو 150 مليون شخص من براثن الفقر المدقع. وما قد يشكل مفاجأة للبعض، أن هذه البرامج لا تغطي نقص الدخل فحسب، وليست مجرد يد العون للنجاة من الغرق، بل هي يد العون الممتدة الى الفئات الأكثر حاجة والتي تضعهم على المسار السريع نحو الاعتماد على الذات.” من المؤسف القول ان الجهات الدولية تؤكد على اهمية محاربة الفقر عبر تطوير القطاع الزراعي، في حين ان الدولة اللبنانية تمعن تدميراً بهذا القطاع، مع ارتفاع معدل الاخطار التي تواجه المناطق الزراعية الفقيرة. ومن المستغرب، ان الوزارات المعنية، توافق على ضرورة وقف النزيف الحاصل في هذا القطاع، غير ان الخطوات العملية لا تزال غائبة، اما الدعم الأكبر، فيذهب الى القطاعات الخدماتية التي أثبتت عدم كفاءتها في تأمين الحماية الاجتماعية لأوسع شريحة من الشعب اللبناني، لأنها أكثر عرضة للأزمات. بينما التركيز على القطاع الزراعي، يزيد حجم الناتج المحلي، ويردم الفجوة الحاصلة في خارطة التوزيع الديمغرافي بين الريف والمدينة، والأهم، يحمي الاقتصاد اللبناني من الاضطرابات المترافقة مع اي حدث امني، داخلي او خارجي.