إيريكا سولومون
بعد أربع سنوات من الحرب، اعتقد أحمد أنه وجد أخيرا فرصته عندما حصل على وظيفة في شركة الغاز الوطنية في سورية. مقابل 80 دولارا شهريا، أمضى خريج هندسة البترول البالغ من العمر 25 عاما من دير الزور عاما كابوسيا وهو يعمل في معمل غاز توينان، أحد المعامل العديدة التي أصبحت في الواقع مشاريع مشتركة بين حكومة بشار الأسد وجماعة داعش.
هذا المعمل ليس بعيدا عن القاعدة العسكرية حيث قتلت “داعش” قبل أشهر عشرات الجنود وعرضت رؤوسهم على قضبان معدنية ذات رؤوس مدببة. يقول أحمد في مقابلة هاتفية “كان ذلك مرعبا، لكن لم يكن لدي خيار”. مثل كافة الموظفين الذين تحدثوا، طلب تغيير اسمه حفاظا على سلامة أسرته. “بالنسبة إلى أشخاص مثلي، أنت لا تملك أساسا أي فرصة عمل أخرى في سورية”. يبقى كل من “داعش” ونظام الأسد أعداء في ساحة القتال، لكن في حقول الغاز السورية أرغمتهم الحاجة إلى الكهرباء على الدخول في ميثاق بين الأشرار.
يوفر الغاز 90 في المائة من احتياجات شبكة الكهرباء في سورية، التي يعتمد عليها كل من “داعش” ونظام الأسد. وتسيطر “داعش” على ما لا يقل عن ثمانية معامل لتوليد الكهرباء في سورية، بما فيها ثلاثة مرافق لتوليد الكهرباء بالطاقة الكهرمائية وأكبر معمل للغاز في البلاد. ولدى النظام شركات تعرف كيف تدير تلك المعامل.
اتهم نشطاء سوريون ومسؤولون غربيون منذ فترة طويلة النظام بعقد صفقات نفط سرية مع “داعش” التي تسيطر تقريبا على جميع المناطق الشرقية المنتجة للنفط في سورية. لكن استطلاعا أجرته “فاينانشيال تايمز” يظهر أن التعاون يكون أقوى فيما يتعلق بالغاز الذي يولد الكهرباء في سورية.
تكشف مقابلات أجريت مع 12 موظفا سوريا في مجال الطاقة عن اتفاقات لا تدور حول المال بقدر ما تتعلق بالخدمات – وهو شيء قد يجدونه أكثر قيمة من المال. لم تترجم الصفقات التجارية إلى هدنة، إذ يواصل الجانبان الهجوم على موظفي بعضهم بعضا وكذلك البنية التحتية لكليهما.
يشير النظام إلى هذه الاشتباكات على أنها دليل يثبت عدم وجود مثل هذه التفاهمات. في بيان مكتوب، تقول وزارة النفط والموارد الطبيعية في سورية “ليس هناك تنسيق مع الجماعات الإرهابية فيما يتعلق بهذه المسألة”. لكنها تعترف بأن بعض موظفيها يعملون تحت قيادة “داعش” من أجل الحفاظ على أمن وسلامة منشآتهم هذه. ويصف آخرون القتال على أنه جزء من صراع للحصول على شروط أفضل، إذ لا يسعى أي من الطرفين إلى تدمير الطرف الآخر. يقول مالك إحدى شركات الطاقة السورية، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه “فكر في الوضع على أنه مناورات تكتيكية لتحسين إمكانيات كل طرف. هذه مفاوضات على غرار أسلوب المافيا كالتي تمت في شيكاغو في العشرينيات. أنت تقتل وتقاتل من أجل التأثير في الصفقة، لكن الصفقة لا تنتهي”.
البيادق في هذه اللعبة المميتة هم موظفو شركات الطاقة التي تديرها الدولة والمجموعات الخاصة التي يتعاقدون معها.
بدلا من القلق حيال الصمامات وخطوط الأنابيب، قضى أحمد كثيرا من وقته في توينان يحلل لعبة فكرية عالية المخاطر مع مشرفيه العسكريين. وهم يضربون العمال بانتظام، حتى إنهم قتلوا واحدا منهم أمام زملائه. يقول “الجزء الأسوأ هو أن تعرف أنه بمجرد وجودك هناك، فأنت لا تنتمي لأي أحد. بالنسبة إلى كل من النظام و”داعش”، تصبح شخصا غير جدير بالثقة”.
مثل أحمد، معظم العمال المرسلين إلى أراضي “داعش” من أبناء الأغلبية السنية، الذين قادوا الثورة ضد عائلة الأسد والنخبة من الطائفة العلوية التي تمثل أقلية تسيطر على الدولة. ودعم عديد من أفراد الأقليات السورية الأسد – خاصة منذ هيمنت “داعش” على الثورة ووصفها غير السنيين بالكفار.
مروان، الذي يرتدي نظارة طبية ويبلغ من العمر 25 عاما، خريج هندسة سني سوري آخر عمل لدى شركة الغاز الوطنية السورية قبل هربه من البلاد هذا الصيف. يقول “إن الأقليات والسنيين الذين لديهم اتصالات سياسية جيدة فقط هم من يستطيع تأمين فرص عمل في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. أما الموظفون الأقل حظا فلا يجدون تعاطفا يذكر من قبل شركات الدولة إذا حاولوا تجنب العمل في وظيفة في مصنع تسيطر عليه “داعش”. “إذا حاولت أن تشتكي، يقولون، انس الأمر. ثق بي، يكون الوضع أفضل في مناطق “داعش”. الناس هناك أسعد”.
يقول مروان “في الاتفاقيات بين “داعش” والنظام تدفع الدولة السورية وشركات الغاز الخاصة لموظفيهم ويطعمونهم ويقدمون المعدات للمرافق”. ويقتسم الجانبان الكهرباء المنتجة من “غاز الميثان الجاف” الثقيل، بينما تحصل “داعش” على منتجات الوقود المصنوعة من الغاز المسال في المصنع.
مثلا، يقول موظفو توينان، إن الغاز المنتج هناك يتم إرساله إلى معمل كهرباء حراري في حلب خاضع لسيطرة “داعش”. عندما تعمل المرافق – هناك حالات انقطاع متكررة بسبب عدم الاستقرار في المنطقة – وتوفر صفقة توينان للنظام 50 ميجا واط من الكهرباء يوميا، بينما تأخذ “داعش” 70 ميجا واط.
وفي معظم المعامل التي يتعاون فيها الجانبان، تعطي “داعش” إنتاجها اليومي من النفط السائل أو غاز الطبخ والغاز المكثف، المستخدم في المولدات، إلى أعضائها، أو تبيعه للسكان المحليين. في توينان، تعني الأوضاع غير المستقرة إنها تنتج حاليا نحو 300 برميل من الغاز المتكثف فقط، من دون غاز الطبخ.
وتتم إدارة معمل توينان جزئيا من قبل هيسكو، وهي شركة سورية يخضع مالكها، جورج حسواني، لعقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي لاتهامه بالتعامل مع النظام و”داعش”. وقال عدد من العمال “إن هيسكو ترسل إلى “داعش” 15 مليون ليرة سورية (نحو 50 ألف دولار) شهريا لحماية معداتها، التي تساوي ملايين الدولارات”. لكن ميشيل حسواني، ابن المالك والمدير في الشركة، ينفي هذا الأمر ويقول “إن الادعاءات بأن الشركة تدفع إلى “داعش”، أو تتواصل معها بأي شكل من الأشكال غير صحيحة وغير دقيقة”. لكنه يعترف بأن “داعش” تدير المصنع “جزئيا”.
وتعين داعش “أمراء” يرصدون العمليات ويتفاوضون مع النظام من خلال وسطاء. هناك أمير للمصنع، وأمير ديني، وآخر من جماعة الحسبة؛ شرطة الأخلاق الخاصة بالجماعة. يقول العمال “إن أمير الحسبة في توينان، المعروف بالشيخ حسيب، يتفقد المصنع لفرض الممارسات الإسلامية الصارمة. وأي شخص ينتهك القواعد يتلقى 75 جلدة”.
وسمح الشيخ حسيب أيضا للمسلحين بأن يهددوا الموظفين. وقد استهدفوا بالفعل 20 مسيحيا يعملون في المصنع، على الرغم من أن العمال يقولون إن هيسكو سددت لـ “داعش” ضريبة الجزية على شكل ذهب. ويستذكر أحد موظفي هيسكو “أن شخصا رفع سكينه في وجه أحد المهندسين قائلا: أقسم بالله أننا سنذبحك كالخروف. بعد تلك الحادثة لم أره قط، أو أيا من الموظفين المسيحيين الآخرين”.
مدير العمليات في توينان، طه العلي، كان يعرف بوصفه وسيطا لشركة الغاز الوطنية السورية مع “داعش”. كرجل تقي ورع، كان محبوبا بين زملائه، لكن العمال يقولون إن أفراد عصابة “داعش” اشتبهوا في أن يكون متعاونا مع النظام. عندما اكتشف الأمير أن الغاز كان يجري تحويله إلى آراك، وهو معمل كان يسيطر عليه النظام آنذاك لكنه الآن تحت سيطرة “داعش”، اتهم العلي بالسرقة لمصلحة حكومة الأسد. تم سحبه بعيدا من قبل الحرس. يقول العمال “إنه عاد مرة أخرى أشعث بعد مرور ثلاثة أشهر. في ذلك اليوم تم إرغامهم على مشاهدة إعدامه”.
قال أحد الزملاء “اتُّهِم بالاستهزاء بالإسلام وكونه مواليا للنظام. أطلق أحد المسلحين الرصاص عليه في الرأس، رصاصة واحدة فحسب. من ثم، جاء الشيخ حسيب وأطلق النار عليه في بطنه. لقد كان موقفا مخيفا”.
يقول العمال “إن معمل توينان استمر في العمل رغم العنف. لكن ببطء، انخفض عدد العمال من 1500 شخص إلى نحو 300 بسبب فرار كثيرين”.
ويصر كثير من مؤيدي النظام على أن تلك التعاملات ضرورية للحفاظ على البنية التحتية وإبقاء الأضواء مشتعلة، وبعض الاتفاقيات هي امتداد لاتفاقات كانت موجودة مسبقا مع الجماعات التي سيطرت على المناطق قبل وصول “داعش” هذا الصيف. قال مالك شركة الطاقة السورية “لا توجد مؤامرة، لكن كما يقول أفراد النظام، إنه تواطؤ ضروري”.
ولا تعاني كل المصانع التي تديرها “داعش” الوضع البائس الذي يعانيه مصنع توينان. يقول موظفون “إن المعاملة أفضل في مصنع “كونوكو” شرقي دير الزور. وهو أكبر منتج للغاز في سورية. ويحمل المصنع اسم الشركة الأمريكية التي طورته في البداية”. يقول الموظفون “إن أمير المصنع، أبو عبد الرحمن الجزراوي، وهو ذو خبرة طويلة يقوم بعقد دورات تدريبية ويعطي العمال برميلا من المكثفات شهريا، إضافة إلى الراتب الذي تقدمه الدولة. يمكنهم بيع هذا البرميل مقابل نحو 100 دولار – غالبا أكثر من أجرهم الشهري”.
ووفقا لكثير من العمال، حتى العثور على عمل لدى المرافق الخاضعة لسيطرة النظام لا يعتبر ضمانا للسلامة، لأنهم مستهدفون من جانب الجهاديين. عمل مروان لدى مصنع إبلا في منطقة فاروقلوس الخاضعة لسيطرة الحكومة، بالقرب من حمص، حيث فجرت “داعش” ونسفت خطوط الأنابيب وفجرت سيارة مفخخة أسفرت عن مقتل مدير المصنع في نيسان (أبريل).
وقال “في كل يوم كنا نراجع خطط الإخلاء. أنا سني، وإذا هربت بسرعة فوق الحد فإن العلويين سيتهمونني بأني متآمر. وإذا انتظرت فترة فوق الحد، ستمسك بي داعش”.
حقل الشاعر للغاز القريب، الذي ينتج تقريبا نصف الطاقة الكهربائية في سورية، استولت عليه “داعش” مرتين في 2014 قبل أن يستعيده النظام. كل شخص يعمل هناك اختفى ويفترض أنه ميت، وفقا لمروان وموظفون آخرون. وحين سقطت تدمر القريبة من الموقع هذا الصيف في أيدي “داعش”، كما يقول مروان، أراد كثير من أصدقائه العاملين في حيان، بالقرب من حقل الشاعر، أن يهربوا. “لم يسمح لهم الجيش بالهرب. قالوا إن أي شخص يريد الفرار سيقتل بالرصاص”.
في توينان، وجد أحمد أن الأحداث من قبيل قتل علي أمر ثقيل جدا على النفس. وقال “كان واحدا من عدد قليل من الناس الذين قابلتهم في حياتي من الذين أعتبرهم أناسا مذهلين”. بعد بضعة أشهر استطاع هو وعدد من الزملاء الآخرين التسلل إلى تركيا، وعبور المتوسط، وأخيرا الوصول إلى ألمانيا بعد رحلة شاقة وصعبة. ويقول الجميع “إنهم يُعتبَرون الآن هاربين لأنهم تخلوا عن مناصبهم في الدولة”.
لم يتمكن المسؤولون في المعمل من العثور على شخص يحل مكان علي، لكن الاتفاق لا يزال ساريا.