استطاعت فرنسا خلال الفترة الماضية عقد صفقات أسلحة مع دول عربية اعتادت الولايات المتحدة أن تلبي احتياجاتها العسكرية، حيث عقدت مصر صفقة كبرى مع فرنسا لشراء 24 مقاتلة من طراز رافال، وتلى ذلك توقيع السعودية وفرنسا 10 إتفاقيات استراتيجية تتعلق بالتعاون العسكري والتقني بقيمة 13 مليار دولار، ومن بينها شراء 23 طائرة هليكوبتر من طراز145Hو هي طائرة خفيفة تصنعها شركة أيرباص ذات محركين تستخدم عادة في الخدمات الطارئة لحرس الحدود. وهذه العقود هي أحدث ما اتفقت عليه باريس والرياض وتأتي بعد أن دعت دول مجلس التعاون الرئيس الفرنسي فرنسوا هولند لحضور قمة مجلس التعاون في السعودية وهي لفتة نادرة تجاه رئيس دولة أجنبية.
وموازياً لكل هذا فقد قررت روسيا، بعد مضي خمس سنوات على الحرب المستعرة في سوريا، التدخل بقوة في تلك الأزمة، بعد إعلان الكرملين منح الرئيس فلاديمير بوتين تفويضا بنشر قوات روسية في سوريا، وبعد أن طالب النظام السوري مساعدة عاجلة من موسكو. وكان الرئيس بوتين قد أعرب عن رغبة بلاده في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، داعيا لتشكيل تحالف سوري، عراقي، إيراني، روسي ومتهما الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب «بتغذية الإرهاب».
منذ أكثر من ثلاثة قرون وروسيا لم تغير في سياساتها الخارجية حيث بقيت لديها هواجس وأولويات استراتيجية للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط لإنشاء قواعد عسكرية هناك. والجديد أن موسكو عانت الاحتقار السياسي من قبل واشنطن، وتجلت هذه الحالة من خلال التدخل العسكري في الحرب على العراق في العام ٢٠٠٣، وكذلك من خلال بناء الدرع الصاروخي في بولندا وأخيراً تأجيج الحرب في أوكرانيا. فقد تعاملت واشنطن مع موسكو كدولة عادية ومن دون أن تعيرها اي اعتبار ولم تعاملها كعضو أساسي في مجلس الأمن الدولي. فكانت سوريا الورقة التي تحرص من خلالها روسيا للعودة إلى نادي الكبار في السياسة الدولية، وبالنسبة لها فإن وجودها في سوريا فرصة ذهبية للعودة إلى عصر التحالفات التي يمكن أن تؤجج حالة الفوضى والصراعات القائمة ولتكون هي المعادلة الصعبة في تثبيت حالة الاستقرار من جديد في المنطقة.
كما أن روسيا، المنهكة اقتصادياً من بعد أزمات أوكرانيا والقرم وانخفاض أسعار النفط، تحاول اليوم إعادة أمجاد ستالين ولينين وبريجنيف بصورة أو بأخرى، وهي تطمح بأن يكون لها أهمية في حضورها الفاعل والقوي على الملعب الدولي، وأن تكون هي المنافسة واللاعب الأوحد في وجه اللاعب الأميركي الأقوى. وقد يبدو للمتابع من الوهلة الأولى، أن هناك إتفاقاً بين روسيا والولايات المتحدة على عموميات المشهد السوري مع بعض الاختلاف في تفاصيله، لكن من واقع الأحداث يمكن القول بأن الولايات المتحدة ما زالت تعتبر أن روسيا عنصر مزعج ومعيق لتطلعات التوسع الاقتصادي الاستراتيجي نحو آسيا الوسطى حيث أنها تمارس دور الحارس الأوحد للمغانم المدفونة في بحر قزوين، وقد ثبت ذلك في مواجهة أحداث أوكرانيا وجزر القرم، التي انتصر فيها الروس على الغرب بعض الشيء، وكان لهم الصوت الأعلى في توجيه الأحداث، وهذا ما يبدو أثار حفيظة واشنطن وربما دفعها لاستدراج موسكو إلى عمق الشرق الأوسط المتأزم.
أما بوتين، فهو يحلم بروسيا الجديدة وكان إدراكه محفزاً للحاجة الاقتصادية الملحة لروسيا لكي لا تقع من جديد في مصيدة الاختناق الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة وحلفاؤها عليها. ومن منطلق الحاجة ومعطيات الأوضاع آنذاك، كان على فلاديمير بوتين أن يتلقى الضربات بصمت تام وأن يعمل بصمت أعمق. ولعل من أبرز النقاط الاستراتيجية التي اتبعها بوتين هي الدائرة المغلقة في الاقتصاد الروسي، فالهدف الذي تسعى إليه روسيا هو الترسانة العسكرية والاقتصادية القويتان. بغض النظر عن السياسات المالية والعسكرية التي اتبعتها روسيا سابقاً، فقد عملت على بيع السلاح الروسي لمن يدفع الثمن نقداً. وكان صدى ذلك كبيراً بالمناطق الشرقية في العالم، فالزبائن كثر هناك والقيمة المدفوعة للسلاح الروسي تعود لتصنيع سلاح جديد بأكثر تقنية ويعود لمشروع النهضة الاقتصادي والعسكري الذي بدأه بوتين.
إضافة إلى كل هذا، وإلى جانب الاقتصاد فإن روسيا بحاجة إلى تحالف استراتيجي في المنطقة، لأن الولايات المتحدة كانت قد ضيقت الخناق عليها منذ أيام الإتحاد السوفياتي عبر طوق منيع تمثل في حلف شمال الأطلسي وبعض الدول التي تربطها إتفاقيات معها مثل باكستان. والدول التي لم تنضم إلى الطوق كانت تتعرض لضربة عسكرية بذرائع مختلفة من قبل الولايات المتحدة وقد عانت الفيتنام وتايوان وجورجيا ويوغوسلافيا وأفعانستان وأثيوبيا وكوريا من هذه السياسة الأحادية إضافة إلى الإضطرابات المدنية والعسكرية التي أيقظتها السياسة الأميركية في المغرب العربي والشرق الأوسط تحت ما عرف بالفوضى البنّاءة.
من هنا كان على روسيا كسر هذا الطوق عبر تحالفاتها ومحاورها للتخلص من الضغط الذي تفرضه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي عليها، فكانت الصين هي الدولة الأكثر استفادة من هذه الرغبة الروسية. فالعملاق الصيني يحتاج إلى تقنيات عسكرية متنوعة للدفاع عن الأمبراطورية الكبرى التي يتم بناؤها في آسيا على اسس اقتصادية وعسكرية حيث تعد الصين من الدول الأكثر استحواذاً على السلاح الروسي المصدر للعالم، فأكثر من 36% من الأسلحة الروسية المصدرة تتجه نحوها. والعملاق العسكري الروسي يحتاج بدوره إلى المال ودعم الاقتصاد الذي هو كل ما ينقصه ليرفع رأسه من جديد ويقف وجهاً لوجه أمام الولايات المتحدة.
الثغرة الأخرى التي استغلها بوتين هي تركيا. فزيارة بوتين إليها كانت تحمل طابعاً خطيراً بوجه الولايات المتحدة، فروسيا من جهة تريد إرضاء تركيا صاحبة الجالية الشيشانية الكبيرة من أجل مساعدتها في مشاكلها القائمة في الشيشان، كما أنها تريد تحصيل مطامع لها في مضيق البوسفور والداردنيل. ومن جهة أخرى، فإن تحالفها مع تركيا يعد اختراقاً خطراً لحلف شمال الأطلسي. روسيا بحد ذاتها استكملت مسيرة التحالفات في الشرق، فكانت في السنوات الأخيرة تحالفاتها واضحة المعالم خاصة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فبهذا التحالف تستطيع روسيا كسر الطوق الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه عليها منذ ستينيات القرن الماضي وتستطيع أن تحصل على ممر نحو الجنوب الشرقي العالمي ومنه الى مياه الخليج العربي والمحيط في تلك المنطقة الاستراتيجية. وهذا ما يفسر الدعم التقني الروسي لإيران الذي يتجاوز مجرد تجارة السلاح والتقنيات ويتعداه إلى التعاون السياسي الروسي-الصيني المدافع عن إيران والذي يعد خط الدفاع الثاني بعد سوريا.
ولعل الاستعراضات العسكرية الروسية هي تهديدات مباشرة لكل هذا. فالتدخل الروسي في سوريا والضربات العسكرية قد تبدو رسائل مبطنة للولايات المتحدة وشعلة لاندلاع حرب باردة جديدة من المنطلق الجيوسياسي. والذي يحدد كل ذلك، هو مقدرة روسيا عبر تحالفاتها في مواجهة الموازنة العسكرية الأميركية المؤلفة من 577 مليار دولار سنوياً للإنفاق العسكري ما يشكّل نسبة 46.5٪ من حجم الإنفاق العالمي، وبمعدل 4٪ من دخلها القومي، وهي بذلك تتفوّق على جميع دول مجموعة G8 مجتمعة وهي مجموعة الحوار والشراكة الاقتصادية، وتضمّ من بين الدول الأقوى اقتصادياً في العالم إلى جانب الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، كندا وروسيا. كما أنها تتفوّق في إنفاقها على خصومها مجتمعين، وهي تكاد تساوي في إنفاقها نصف الإنفاق العسكري في العالم. فهل تقدر روسيا عبر تقنياتها من اللحاق بالكم المالي الأميركي الهائل للموازنات العسكرية؟
إنتقاد الرئيس الروسي للميزانية الأميركية الدفاعية العملاقة هو في حد ذاته إعلان عن بداية فصل جديد من الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا. لكن ما يزيد قدرة روسيا المالية حالياً هو مبيعاتها من الأسلحة الضخمة لحلفائها الاستراتيجيين مثل الصين والهند والجزائر والتي عادت بقوة إليها عبر صفقة تعد الأضخم منذ انهيار الإتحاد السوفياتي. كما أن أكبر سلاح في يد روسيا أيضاً هو الطاقة من الغاز الطبيعي وقد رأينا كيف استعملته روسيا ضد أوكرانيا مما أشاع الذعر في أوساط الأوروبيين الذين يسعون اليوم للبحث عن مصادر بديلة ولبدء مشروع استغنائهم عن العملاق الروسي والذي قد يبدو شبه مستحيل في الوقت القريب. أما بالنسبة لتركيا، فلا يبدو أن الأتراك يغامرون بحلفهم مع واشنطن والتعاون مع روسيا لا يغدو إلا في مجال الطاقة.
لذلك على العرب ان يعدّوا توجهات استراتيجية جديدة واضحة بمعنى أن يحددوا هويتهم الإنتمائية وماذا يريدون بالتحديد من ملف الشرق الأوسط وأن يتم التعامل مع هذا الصراع وفقاً لتحقيق المصالح العربية، وأن لا يتم استخدامهم كأداة فى يد احد وأن لا يكونوا فى وضع المستغل دائماً. فالولايات المتحدة حاربت الإتحاد السوفياتي السابق بأموال العرب وتحت دعوى الجهاد فى افغانستان واستخدمت حالة خوف الأنظمة العربية الخليجية وغباء النظام العراقي في الحرب الإيرانية ودفعه نحو احتلال دولة الكويت حتى أن فقدت الرؤية السياسية العربية الموحدة. وقد ساهمت الحركات الإسلامية الأصولية بانهيار النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري السوفياتي بالاستغلال الأميركي لها ومن ثم الإيقاع بها في مكائد صهيونية-أميركية وكان لها التأثير الأكبر على اقتصاد وسياسة المنطقة. والآن يعود الغرب بالخطة نفسها للضغط على العرب جميعاً سواء من احتلت أرضه عسكرياً أو من استولي على مقدراته سياسياً أو من استبعد عن الساحة الدولية اقتصادياً. لذلك فمن مصلحة العرب اليوم، الوقوف إلى جانب قطب آخر يساند ويدعم قضاياهم العادلة. ومن المعروف أن القوي لا يقف إلى جانب الضعفاء لسواد عيونهم بمعنى أنه يجب إفادة روسيا اقتصادياً وسياسياً من قبل العرب على غرار ما فعلت الجزائر فى صفقة الأسلحة الأخيرة. إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا استنفرت الإسلام الأصولي لمحاربة السوفيات والآن هي تحارب وتستنزف الإسلام عموماً, لأن تلك الدول تتسم بالبرجماتية وتؤمن بالقوة وتسعى وتقف مع القوي الذي يقدم لها خدمات في المنطقة. وإن الروس خلفاء الشيوعيين بدورهم ليسوا ملائكة وأنهم يسعون بدورههم لمجد بلادهم وعليهم أن ينسوا مواقف العرب المخزية معهم، لذا يجب تحديد استراتيجية تحقق الأهداف العربية وأن يكون العرب هم القوة الثالثة الوسطية وأن يديروا الطرفين لمصلحتهم لأن العرب هم مفتاح العالم بسبب جغرافية بلادهم وقوتهم الاقتصادية ومقدراتهم الطبيعية الفعالة. ولكن للأسف فحكام العرب لايعرفون قيمة البلاد التى يحكمونها! ولو فهموا الحكمة الصينية التي تقول «حتى أعظم حيتان البحر ليس لديها أي قوة في الصحراء» لكنا وبلادنا العربية وأهلها بألف خير!!.