كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
الصورة شديدة الرمزية: عون على مفرق بعبدا يراهن على طائرة روسيّة تحقِّق الغلبة للحلفاء، وتحمله إلى بعبدا، فيما طائرة أخرى، إيرانية، تحمل رئيس «التيار» جبران باسيل و«رفيقه» بروجردي إلى طهران. إنّها المراهنة العونية: معاً «في الجو» مع الحلفاء. نسقط معاً أو نصل معاً!في الأسابيع الأخيرة أطلق العماد ميشال عون ما وصَفه البعض بـ«الانتفاضة». لا لأنّ شيئاً لم يعُد لديه ليخسره، كما يقول البعض، بل لأنّه يعتبر اللحظة الإقليمية مناسبة لقطف الثمار. وقد عبَّر عن ذلك بقوله لأحد القريبين منه: «إضرب الحديد وهو حامٍ. الآن يُعاد خلط الأوراق في سوريا، وسيجد الخصوم أنفسَهم مضطرّين إلى القبول بتسوية مرحلية شاملة. ولا يمكن لأحد أن يتجاوزَني فيها».
وفي تقدير عون أنّ الحراك الذي يقوم به النائب وليد جنبلاط، في ذروة المأزق الشامل، قد يكون فرصة لإنجاز التسوية التي ستصبّ في مصلحة الجميع. وإذ تنفي مصادر الرابية أيّ تفاهم مسبَق بين عون وجنبلاط على أسُس التسوية، فإنّها تقول: سيكون من حظ الجميع أن تنجح وساطة جنبلاط. ونحن على تواصل دائم معه. وربّما يكون على أجندته زيارة الرابية قريباً، بعد زيارته السعودية.
القريبون من عون يؤكّدون أنّه بدأ يسلك طريقاً أكثرَ وضوحاً بعد خسارة موقع قيادة الجيش، الذي كان يمكن أن يشكّل له تعويضاً جزئياً لعدم وصوله إلى بعبدا. فقد عاد إلى الأساس، أي رئاسة الجمهوية.
وبعد اليوم، لن يتلهّى «الجنرال» بأيّ شيء على الطريق، بل سيتوجّه مباشرةً إلى الهدف. ولذلك، هو يرتقب ما يجري بين بيروت والرياض وطهران وعواصم أخرى من مفاوضات حول الملف اللبناني، ولا سيّما نتائج زيارة جنبلاط السعودية.
يبدو عون مرتاحاً إلى أنّ الدخول الروسي القوي إلى سوريا حسمَ المعادلات هناك. فالمحور العربي والإقليمي الذي كان يراهن على إسقاط الرئيس بشّار الأسد تراجَع عن مراهنته إلى غير رجعة. وفوق ذلك، أدرَك الجميع أنّ ما يقوم به الروس يَحظى برضى مبدئي، دولياً وإقليمياً، وإنْ كان هناك خلاف على التفاصيل.
ورشَح عن لقاء سوتشي الأخير أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أبلغَ إلى ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مواقفَ واضحة بالنسبة إلى الحلّ السياسي في سوريا ودور الأسد فيها، بما يجَنِّبها مخاطر التقسيم. فموسكو والرياض تختلفان على مستقبل الأسد، لكنّهما متفقتان في شكل مؤكّد على أمر أساسي هو وحدة سوريا وضرب الإرهاب.
ويعتقد عون أنّ جنبلاط عرف كيف يختار اللحظة المناسبة التي تبدو فيها السعودية مستعدّة لقبول المبادرات والتجاوب مع الطروحات التسوَوية. وهو يرى مصلحةً في نجاح المساعي الجنبلاطية إلى إقرار تسوية شاملة، تتضمّن انتخابات رئاسية وانتخابات نيابية وفق قانون جديد وحكومة جديدة. وكان جنبلاط روَّج للتسوية لدى القوى المحلّية الفاعلة. لكنّه يدرك أنّ الأساس هو مباركة الرعاة الإقليميين للتسوية، ولا سيّما السعودية وإيران.
ويتفاءل عون بأنّ الضغوط التي مورسَت عليه في الدوحة لن تتكرّر في التسوية المرتقبة، وهو مقتنع بأنّ حظوظه في الرئاسة عادت إلى الارتفاع.
ويقول: لم يكن الرئيس سعد الحريري متشنّجاً في المفاوضات التي دارت بيننا في ربيع 2014، مباشرةً وعبر الوسطاء والكوادر، في باريس وروما والرياض.
وعلى العكس، هو أبدى كلّ استعداد للقبول بالطرح الثلاثي الذي تقدّمتُ به، أي وصولي إلى الرئاسة، في مقابل عودته إلى رئاسة الحكومة وبقاء الرئيس نبيه برّي رئيساً للمجلس النيابي. ولكن، هناك قوى داخلية وإقليمية متضرّرة من التسوية تمنع إنجازها.
وينقل زوّار الرابية عن عون قوله إنّ طرحه الثلاثي لم يمُت، بل إنّ الظروف تسمح اليوم بإعادة إحيائه. ولذلك، كانت الدعوات المتتالية التي وُجِّهت إلى الحريري كي يعود إلى لبنان سريعاً، تأكيداً للجوّ الإيجابي الذي يمكن أن يوصل إلى تسوية. ويتوقّع البعض أن يتجاوب الحريري مع هذه الدعوات الصادرة عن حلفاء ذوي ثقة. فالجميع يحتاج إلى مبادرات تنقذه من الجمود.
والأصداء التي وصلت إلى الرابية عن زيارة جنبلاط للسعودية تؤكد أنّها كانت جيّدة على الأقلّ في فتح باب النقاش بعد غياب طويل، وأنّ جنبلاط استطاع بنتيجتها أن ينقل علاقته بالسعوديين من وضعية «المستقر» إلى وضعية «الإيجابي»، ما يؤهّله القيام بدور في التسوية.
ويسود انطباع في أوساط عون بأنّ الحلف الذي تقوده السعودية سيكون في المرحلة المقبلة أكثر واقعية واستعداداً لتقبّل التسويات. وإذا كانت التسوية ستُصاغ بين واشنطن وطهران في الدرجة الأولى، فإنّ للسعودية حقّ ممارسة «الفيتو» على تسمية الرئيس.
ومِن هنا سعي عون إلى تذليل هذه العقبة. وفي أيّ حال، لا يجد عون سبباً ليضع السعوديون «فيتو» عليه، لأنّ علاقته بهم لم تعُد سيّئة، وهي تجاوزت العديدَ من المطبّات. وفتح عون مع العهد السعودي الجديد صفحة جديدة ويمكن تطويرها.
وبالنسبة إلى فكرة الرئاسة الانتقالية، يقول المطّلعون على أجواء الرابية إنّ عون بات أكثرَ تفهّماً لها، إذا كانت تتكفّل بتمرير التسوية. فمدّة العامين التي يمكن أن يأتي بها عون إلى بعبدا تحقِّق له الكثير على الصعيد الرمزي- المعنوي. كما تتيح له تحقيقَ الكثير من الإصلاحات السياسية والدستورية. وينتظر عون ظهورَ الملامح الجدّية للتسوية، إذا نجَح الحراك الجنبلاطي.
ومن هنا، جاءت زيارة الوزير جبران باسيل لطهران، في طائرة رئيس لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي، من باب جسّ النبض الإيراني والتأكّد ممّا إذا كانت طهران مستعدّة فعلاً لتسوية تأتي برئيس للجمهورية في الوقت الحاضر، وإذا كان العماد عون هو المرشّح الحقيقي للمحور الإيراني أم إنّ هناك مرشّحاً بمواصفات أخرى.
في فترات سابقة، «وصَلت اللقمة إلى فم الجنرال» لكنّها تراجعت في اللحظات الأخيرة. وثمَّة من يقول: لو كانت المشكلة في خصوم عون، لربّما كان سهلاً إقناعهم بصفقة معيّنة، لكنّ مشكلة عون هي في أنّ حلفاءَه لم يكونوا في وارد اتّخاذ قرار بملء الفراغ الرئاسي، فيما مصلحتُهم هي استكمال الفراغات والتعطيل والشَلل ليصبح البلد في وضعية الاهتراء الشامل. وعندئذٍ، سيكون سهلاً إملاء التسويات على الجميع.
لقد انتظر حلفاء عون أن تأتي اللحظة الإقليمية التي تتيح فيها موازين القوى إنجاز تسوية سياسية تخدم مصالحهم في لبنان. وربّما تكون هذه اللحظة قد اقتربت مع الدخول الروسي – الإيراني المكثّف، والذي يقلب المعادلات في سوريا.
وهناك تفاؤل في الرابية بإحياء الطرح الثلاثي (عون، برّي، الحريري)، وفيه مصلحة للجميع: عون يحقّق الإنجاز المنشود من ربع قرن، برّي يثبِّت موقعه على رأس الأقوياء، الحريري يعود إلى البلد واللعبة السياسية، وجنبلاط يقطف ثمارَ أتعابه كوسيط. ولكن، في المقابل، يعتقد كثيرون أنّ من المبكر الحديث عن تسوية من هذا النوع.
فهل إنّ عون هو مرشّح إيران المفضَّل، وهل تريده روسيا أم تفضِّل التوافقي لتتجنّب التصادم مع واشنطن؟ وهل تُوافق عليه السعودية والحريري، في ظلّ العلاقات التي تبدو وطيدة مع الدكتور سمير جعجع؟
في تقدير كثيرين أنّ الحظ سيبتسم لـ»الجنرال». لكنّ الحظ فعَلها مراراً على مدى ربع قرن… وسرعان ما كان يعود إلى طبعِه العَبوس. فهل سيفعلها هذه المرّة؟