ليست مأساة آل صفوان الذين عاد سبعة منهم جثامين هامدة إلى بيروت امس، فيما لا يزال اثنان في عداد المفقودين، سوى ترجمة حرفية لما يعيشه المواطن اللبناني من غربة في بلده، ومن معاناة يومية تدفعه، إما الى الانخراط في الحراك المدني ورفع الصوت في الشارع، وإما إلى ركوب البحر والوقوع ضحية مافيات الإتجار بالبشر.
والدولة التي خرجت أمس لإعادة الضحايا والقيام بالإجراءات اللازمة لاستقبالهم ودفنهم، لم تستطع أن تعوّض عن غيابها المزمن الذي دفع آل صفوان الى خوض غمار البحر، كما دفع آخرين لم تُعرف أسماؤهم الى خوض المغامرة ذاتها، بحثاً عن غد أفضل.
حضر المسؤولون مع الموت الى المطار، يقفون أمام الكاميرات ويصرّحون وينعون الخارجين إلى المصير المحتوم. ولم ينسوا أن يحذروا مواطني دولتهم من قوارب الموت، إنما من دون أن يقدموا لهم قارباً واحداً للنجاة.
وقد أضاءت مأساة آل صفوان على ظاهرة الهجرة غير الشرعية، الآخذة في الاتساع، من لبنان في اتجاه تركيا ومنها صوب أوروبا، خصوصاً عبر الشاطئ الشمالي. ولا تقتصر هذه الهجرة العابرة للمجهول على نازحين سوريين أو لاجئين فلسطينيين بل بات الكثر من اللبنانيين ضحايا لها أيضا، بعدما ضاقت بهم السبل في وطنهم.
وقد تفاقمت هذه الظاهرة في طرابلس والمناطق المحيطة بها، حيث يتجاوز الرقم المتداول في الأوساط الشعبية للذين هاجروا نحو 3500 شخص بينهم أطفال ونساء ورجال، من الطوائف كافة، ومن مستويات علمية مختلفة، وطبقات شعبية فقيرة ومحدودة الدخل.
وتفيد المعلومات أن نحو 1000 شخص غادروا خلال الأسبوعين الماضيين الى تركيا، إما عن طريق مطار بيروت أو مرفأ المدينة، وان ما يقارب 500 شخص استحصلوا على جوازات سفر لبنانية للمغادرة خلال الأيام المقبلة، وفي حوزة الغالبية منهم أوراق ثبوتية سورية مزورة. كما تسجل الأرقام ارتفاع نسبة الهجرة في المخيمات الفلسطينية، خصوصا مخيم عين الحلوة.
نكبة آل صفوان
هناك في المياه الغريبة والباردة، أكمل مصطفى صفوان عامه الثاني عشر، وتحديداً ما بين تركيا واليونان حيث رافق والده وعشرة أفراد آخرين من عائلته خرجوا إلى المجهول بحثاً عن وطن أفضل، يحترم حقوق الإنسان بالطبابة والتعليم والعمل والكرامة، فلا يموتون تحت الجسور أو على حوافي الطرق.
وفي اللحظة التي غرق فيها المركب ومعه 12 فرداً من عائلة صفوان، أطفأ مصطفى آياد صفوان شمعته الثانية عشرة في عيد ميلاده ومعها عمره القصير، بينما سبح والده آياد إلى الشاطئ ليقع في قبضة السلطات التركية التي تحقق معه.
وهناك أيضاً ماتت ميلاني، ابنة مايز صفوان من زوجته الألمانية. ماتت قبل أن تعرف مصير ولديها وائل (18 سنة) ومالك (ثماني سنوات) اللذين ما زالا مفقودين. وحده ماهر، ابنها الثاني عاد فجر اليوم الخميس مع شقيقها موسى، بعدما نجوَا من الكارثة.
ولكن النجاة لم تكتب لمايز، الجد ومعه زوجته مريم وابنتاه مايا (تسع سنوات) ولين (سبع سنوات)، ومعهم ماتت حورية، زوجة موسى ابن مايز صفوان (عاد فجر أمس) قبل أن تضع جنينها بأيام، تلك المرأة الحامل التي طفت على وجه البحر وهي تتمنى أن يرى وليدها النور في بلاد “الأحلام” التي لم تتحقق.
وهكذا رست مأساة آل صفوان، كما أكد عميد العائلة يوسف صفوان لـ”السفير”، على سبعة جثامين سيصار إلى تشييعهم اليوم، ومفقودين اثنين ما زال البحث مستمراً عنهما في البحر قبالة الشاطئ التركي، وموقوف بيد السلطات التركية.
وتجلت مأساة العائلة أمس في مطار بيروت حيث أُغمي على أربعة من أفرادها لحظة عبور سيارات الإسعاف التي تحتضن الجثامين من أمام المدخل الرئيسي لقاعة الوصول.
ولم يكن المشهد في مستشفى رفيق الحريري الحكومي أفضل حالاً، خصوصاً عندما كان على العائلة التعرف الى الجثامين.
وأوضح صفوان أن العائلة تواصلت مع رئيس الحكومة تمام سلام الذي كلف الهيئة العليا للإغاثة الاهتمام بالموضوع، كما تم الإيعاز، عبر وزارة الخارجية، الى السفارة اللبنانية في تركيا للاهتمام بالعائلة. وكذلك تم التواصل مع نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان.
وأبلغ الأمين العام للهيئة اللواء محمد خير “السفير” أنه بالتنسيق بين السفارة اللبنانية في تركيا والهيئة، تم ترتيب وصول الناجيين ماهر وموسى صفوان فجر اليوم، وتجري متابعة الناجي الثالث آياد صفوان عبر السفارة، خصوصا وضعه النفسي والصحي والقانوني، برغم عدم قدرة موفد السفارة على مقابلته شخصياً.
وأعادت السفارة بالتعاون مع الهيئة جثامين الضحايا إلى مطار بيروت الدولي عند الثانية بعد ظهر أمس، إضافة إلى متابعة البحث عن المفقوديَن وائل ومالك صفوان.
وأقيم استقبال للجثامين في المطار شارك فيه وزير الأشغال العامة والنقل غازي زعيتر ممثلاً رئيس مجلس النواب، اللواء خير ممثلاً رئيس الحكومة، النائب علي المقداد ممثلاً “حزب الله”، الشيخ عباس زغيب ممثلاً نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، فيما نبّه زعيتر الى وجود مافيات خارجية تقوم بالإتجار بالبشر محذراً اللبنانيين من الوقوع في فخها.