هاني شادي
كشفت هيئة الإحصاء الحكومية الروسية مؤخراً أن الدخول الحقيقية المتاحة للمواطنين الروس في شهر أيلول من العام الجاري 2015، تراجعت بــ 4٫5 في المئة، وبنحو 6٫3 في المئة مقارنة بشهر آب من العام نفسه. فالقدرة الشرائية للروس انخفضت بــ 9 في المئة خلال الشهور التسعة الأخيرة على خلفية ارتفاع أسعار السلع والخدمات. وتؤكد صحيفة «الأخبار الجديدة» الروسية في عددها الصادر 21 تشرين الأول الجاري أن انخفاض الدخول الحقيقية في روسيا يتواصل على مدار العام الحالي، حيث كان آخر ارتفاع لها في خريف 2014. وفي هذا السياق تكهّنت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية الأسبوع الماضي بأن تكون دخول المواطنين الروس المُعتمدين على ميزانية الدولة أقل هذا العام مقارنة بالعام السابق، وبأن هذا الاتجاه سيتواصل حتى العام 2018.
لقد اضطرت الحكومة الروسية، تحت ضغط انخفاض أسعار النفط العالمية والعقوبات الغربية، إلى التخلّي عن إعداد ميزانية للدولة لمدة ثلاث سنوات دفعة واحدة، كما كان متبعاً منذ سنوات عدة. وقررت وضع ميزانية الدولة لمدة عام واحد فقط. والأهم أن الحكومة الروسية اضطرت هذا العام إلى الاكتفاء بتعويض جزئي عن ارتفاع الاسعار في مجال المدفوعات الاجتماعية للمواطنين بنسبة 5٫5 في المئة فقط. كما تخلت الحكومة بشكل كامل عن تعويض أجور العاملين في القطاع الحكومي عن ارتفاع التضخم، علماً بأن معدل التضخم بلغ في العام الماضي 11٫4 في المئة، وذلك في ظل تراجع إيرادات الدولة من تصدير النفط بمبلغ 100 مليار دولار خلال الشهور الستة الأخيرة. ولذلك يتوقع خبراء الاقتصاد الروس أن الأجور سوف تواصل الانخفاض خلال العامين المقبلين على أقل تقدير. ويخشى هؤلاء الخبراء أن يتحول تخلي الحكومة الروسية عن تعويض العاملين في القطاع الحكومي عن التضخّم إلى معيار يُحتذى به من قبل السلطات المحلية في الأقاليم الروسية المختلفة، وفي شركات ومؤسسات القطاع الخاص أيضاً.
وفق تقديرات وزير المالية الروسي السابق، اليكسي كودرين، فإن الدخول الحقيقية للمواطنين في روسيا في العام 2016 ستنخفض بحوالي 7 في المئة، والأجور الحقيقية بــ 10 في المئة. ويقول سيرغي سميرنوف، مدير «معهد السياسات الاجتماعية» التابع للمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، إن مؤشرات هيئة الاحصاء الحكومية في روسيا في ما يتعلق بالأجور غير سارة تماماً. ويشير إلى أنه برغم ارتفاع الأجور الأسميّة هذا العام بالمقارنة بالعام الماضي، إلا أن الأجور الحقيقية انخفضت بشكل واضح. ويتضرّر من هذا الاتجاه في الاقتصاد الروسي أصحاب الدخول والأجور الثابتة وأصحاب معاشات التقاعد. وتشير تقديرات إلى أن نحو 40 ــ 45 في المئة من الأسر الروسية تضم العديد من المتقاعدين، حيث يمثل ما يحصل عليه هؤلاء من معاشات تقاعدية جزءاً مهماً من مجمل الدخول التي تحصل عليها هذه الأسر. فمدفوعات معاشات التقاعد تعتبر «وسادة أمان اجتماعية» لمثل هذه الأُسر في حال فقدان العناصر الشابة فيها للعمل أو عدم الحصول على فرص متاحة للعمل أو التوظّف. وهذا، في حد ذاته، يُقلّل من نمو نسب الفقر وعدد الفقراء في المجتمع. ولذلك، فإن تخلي الحكومة الروسية جزئياً عن تعويض أصحاب معاشات التقاعد عن ارتفاع التضخم سيزيد من احتمال ارتفاع خطر الفقر ليس فقط بالنسبة إلى المتقاعدين، بل وبالنسبة إلى نصف سكان روسيا تقريباً، بحسب ما ترى، تاتيانا ماليفا، مديرة «معهد التحليل الاجتماعي والتنبؤ بالاقتصاد الروسي».
في هذا العام، وحسب الإحصاءات الرسمية، ارتفع عدد الفقراء في روسيا بنسبة 3 في المئة، ووصل عدد المواطنين الروس الذين يعيشون تحت خط الفقر حوالي 23 مليون نسمة، أي نحو 16 في المئة من عدد السكان الإجمالي للبلاد، البالغ عددهم ما يقرب من 143 مليون نسمة. هذه النسبة، بالطبع، أقلّ مما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، الذي وصلت فيه إلى حوالي 29 في المئة من إجمالي عدد سكان روسيا. وما يُعقد من مشكلة الفقر والوضع الاجتماعي في روسيا أن نسبة تتراوح بين 55 و60 في المئة من السكان يعيشون عند حدّ الكفاف.
ويحذّر كثير من الاقتصاديين الروس من أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في روسيا قد تتفاقم أكثر خلال الأعوام القليلة المقبلة، حيث لم تعُد الحكومة قادرة على الإنفاق بسخاء على البرامج الاجتماعية ودعم الفقراء ومحدودي الدخل بسبب تراجع إيراداتها من تصدير النفط والغاز. ويقول هؤلاء الخبراء إنه خلال الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، لم تترك الحكومة الروسية الدخول الحقيقية للمواطنين عُرضة للانخفاض والتراجع، أما الآن فالوضع بات مختلفاً. ولذلك يطالب البعض في روسيا بإقالة حكومة دميتري ميدفيديف، باعتبارها المسؤولة عن هذا التدهور نتيجة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تتبعها. ولكن الرئيس الروسي، على عكس هذه المطالب، منح رئيس حكومته الأسبوع الماضي وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى لمساهمته البارزة في تطوير المجالين الاقتصادي والاجتماعي في روسيا.
في ظل هذه الظروف، بدأ يتساءل بعض الروس عن تكلفة العملية العسكرية الروسية في سوريا، ومدى تأثيرها على مستوى معيشتهم. غير أن الرئيس الروسي وغيره من المسؤولين الرسميين يكتفون بالقول إن هذه التكلفة زهيدة ولن تؤثر على مستوى معيشة المواطنين. ولا يعرف أحد مقدار هذه التكلفة بالضبط، كما أنه لم يعلن أحد من المسؤولين الحكوميين في روسيا عن حجم الإنفاق الفعلي على الانخراط العسكري في الأراضي السورية. ومن ثم يظل الاستفسار عن ذلك معلقاً، من دون إجابة واضحة أو قاطعة. وكل ما هو معروف، حتى اللحظة، هو زيادة الإنفاق العسكري في مشروع الموازنة الحكومية لعام 2016 بـأكثر من خمس مرات مقارنة بالإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية.