لم تعد متابعة أسعار النفط -خاصة لنفوط “الإشارة” أو النفوط “المرجعية”- صعبة لا على المختصين ولا على غيرهم، فالنشرات المتخصصة تنشر ذلك يوميا وتعطي المعدلات الأسبوعية والشهرية، وبعض المواقع الإلكترونية تتابع تطور أسعار النفط بالدقيقة بينما تورد معظم القنوات التلفزيونية الفضائية أسعار النفط في نشراتها.
أسعار الغاز مناطقية
ولا ينطبق هذا على أسعار الغاز الطبيعي، حيث لا يوجد للحظة ما يمكن أن يطلق عليه “السعر العالمي للغاز”، وتبقى سوق الغاز مناطقية (أي تتعلق بمناطق جغرافية في العالم) وليست عالمية، ومن الصعب متابعة الأسعار المناطقية إلا من قبل المختصين، ويعود السبب في ذلك إلى التطور التاريخي للصناعة الهيدروكربونية بشقيها النفطي والغازي.
فالتاريخ الحديث للصناعة النفطية يبدأ بحفر أول بئر بجهاز حفر دوار في 1859 بالولايات المتحدة حيث كان السعي دائما لإنتاج النفط وحرق الغاز المصاحب الذي كان يعتبر عبئا حتى لو اكتشف في حقل غاز مستقل.
وأغلب الظن أن استهلاك الغاز بدأ باستخدامه في عمليات إنتاج النفط أو في حقنه بالمكامن لإدامة ضغطها ثم استخدم في أماكن قريبة من مراكز الإنتاج لتشغيل المكائن وتوليد الكهرباء والاستمرار بحرق الفائض.
وسرعان ما تطور الأمر وبدأ الاهتمام بالغاز كمصدر للطاقة، خاصة في توليد الكهرباء بالدورة المركبة عالية الكفاءة ولخواص الغاز البيئية من حيث قلة الشوائب وقلة ثاني أكسيد الكربون النسبية عند الحرق وكمادة مغذية في الصناعات البتروكيميائية.
وبسبب هذا الاهتمام فقد ازداد استكشافه وإنتاجه، حيث ارتفع الاحتياطي المثبت من 72 تريليون متر مكعب في 1980 إلى 187 في 2014، أي بزيادة 161% بينما ارتفع احتياطي النفط في نفس الفترة من 683 إلى 1700 مليار برميل بزيادة 149%.
وبلغ استهلاك الغاز في العالم 588 مليون طن نفط مكافئ في 1965 بينما كان استهلاك النفط 1530، لكن أرقام الاستهلاك بدأت تتقارب، إذ بلغ استهلاك كل من الغاز والنفط في 2014 ما يقرب من 3066، و4211 مليون طن نفط مكافئ على التوالي.
غير أن استهلاك الغاز بقي بالدرجة الأساس محليا للحاجة إليه في أقطار إنتاجه ولصعوبة نقله وتخزينه بكميات كبيرة على عكس النفط تماما، لذا تطورت التجارة الدولية بالنفط بسرعة انتشار استخدامه، خاصة بعد انتشار وسائط النقل العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي من غازولين وديزل، وكان النفط الداخل في التجارة الدولية في 1980 ما يقرب من 32 مليون برميل باليوم وازداد إلى 57 مليون برميل باليوم في 2014 بينما وصل حجم الغاز الداخل في التجارة الدولية في 2014 إلى تريليون متر مكعب تقريبا أو ما يعادل 18 مليون برميل نفط يوميا تنقسم إلى ما يقرب من 12 مليون برميل يوميا من الغاز المنقول بالأنابيب والباقي على شكل غاز مسال ينقل إلى مستهلكيه بناقلات خاصة ويعاد تغييزه ( ليصبح غازا مرة أخرى) وضخه في خطوط البلد المستورد إلى المستهلكين.
هناك عدد كبير من الدول منتجي ومصدري النفط وعدد أكبر من مستهلكيه، لذا وبتوسع تجارته -خاصة بتنامي السوقين الفورية والمستقبلية- بات بالإمكان اعتماد أسعار نفوط إشارة عالمية كنفط برنت ونفط غرب تكساس الخفيف ونفطي دبي وعمان لتحديد أسعار النفوط الأخرى بالمقارنة النوعية والمكانية.
ولم يتحقق الشيء ذاته بالنسبة للغاز لمحدودية الاتجار به بالمقارنة إضافة إلى محدودية الدول المصدرة والمستوردة من، وبقيت أسعاره تعتمد على الاتفاق بين المتعاقدين في أسواق أميركا الشمالية وأوروبا واليابان وشرق آسيا.
أسعار متفاوتة للغاز
الولايات المتحدة اعتمدت بصورة رئيسية على مواردها المحلية وبقي سعر الغاز تحت سيطرة الحكومة التي تحدده عن طريق هيئة مختصة إلى عام 1978 إذ بدأت القيود على الأسعار تخفف تدريجيا إلى أن ألغيت بالكامل في 1993 وأصبح السعر يحدد بموجب أساسيات العرض والطلب في نقطة محددة هي “مركز هنري” بولاية لويزيانا التي يمر بها 14 من خطوط نقل الغاز الرئيسية إلى مناطق الاستهلاك.
ومن هذه النقطة يحدد سعر الغاز في المناطق المختلفة وإلى مداخل المدن فالمستهلكين، وقد اعتمدت أسعار مركز هنري كمرجع في تسعير الغاز بالسوق المستقبلية وكنقطة تسليم أيضا إن تطلب الأمر. وكانت سوق “نايمكس” في نيويورك قد بدأت بتسويق عقود الغاز الورقية في 1990، وانعكس كل ذلك على أسعار الغاز المستورد من كندا والمكسيك أو المصدر إليهما باعتماد أسعار مركز هنري أساسا للتعاقد.
أما بالنسبة للغاز المسال المستورد إلى الولايات المتحدة منذ 1969 من الجزائر فقد اعتمد على المفاوضات بين الجانبين بالاتفاق على سعر أساس يفي بتكلفته وتضاف إليه علاوة اعتمدت أولا نسبة 15 إلى 20% من أسعار الحديد ثم تحولت إلى علاقة اعتمدت أسعار زيتي الغاز والوقود إلى أن وصلنا لمرحلة اعتماد أسعار السوق في مركز هنري لمن يريد تصدير الغاز المسال إلى الولايات المتحدة الذي انخفض كثيرا بسبب زيادة إنتاج الغاز الصخري هناك.
أما السوق الأوروبية فقد كانت دائما تعتمد على المنافسة بين الغاز وبين أنواع الوقود المنافسة الأخرى التي يمكن للغاز أن يحل محلها، كما أن بعض دول أوروبا منتجة ومصدرة للغاز كهولندا والنرويج وبريطانيا، لذا اعتمدت أسعار الغاز المستورد على تنافسيتها مع أسعار هذه الدول.
واذ اعتمد سعر الغاز الهولندي كأساس لتسعير الغاز الروسي الواصل إلى ألمانيا أو الغاز الجزائري الواصل إلى جنوب أوروبا فقد تحول التسعير لاحقا إلى ربط السعر بأسعار المنتجات النفطية، خاصة زيتي الوقود الخفيف والثقيل.
ثم أدخل لاحقا عامل المنافسة مع الغاز الهولندي وأسعار بريطانيا في ما تسمى منطقة التعادل الوطنية على المعادلة السعرية التي انخفض دور النفط فيها إلى 58% بحلول 2011 نتيجة إدخال عامل منافسة الغاز للغاز إلى المعادلة.
كما ارتبط تسعير الغاز المسال إلى أوروبا بمعادلة سعرية تشمل السعر الأساس مضافة إليه علاوة تعتمد إما على أسعار النفط الخام أو أسعار المنتجات النفطية من زيتي الوقود والغاز مع وجود الالتزام بالدفع في حالة الاستلام أو عدمه وعلى مدة ثلاث إلى أربع سنوات لمراجعة المعادلة السعرية.
أما سوق اليابان -المستورد الرئيسي للغاز المسال في العالم- فقد بدأت بالتفاوض على سعر ثابت للغاز في 1969 محسوب على أساس سعر التكلفة مضافا إليه ربح مرضٍ للبائع والمشتري والمصارف الممولة.
ثم انتقل إلى ربط السعر بمعدل أسعار النفط الوارد إلى اليابان مضافة إليه تكلفة الشحن والتأمين.
ولتلافي التقلبات الحادة في سعر النفط عدلت المعادلة السعرية بربط السعر جزئيا بسعر النفط عن طريق علاقة خطية حددت بما سمي (S-Curve) يتفق عليه بين البائع والمشتري باستعمال ميلان متغير يحفظ حقوق البائع في حالة انخفاض سعر النفط كثيرا ويحفظ حقوق المشتري في حالة ارتفاعه كثيرا.
وقد اُستخدمت مبادئ المعادلة السعرية اليابانية في تسعير معظم الغاز المسال الوارد إلى آسيا، خاصة في كوريا الجنوبية بينما اعتمدت تايوان المتحقق من أسعار اليابان أساسا لوارداتها.
تأثير متبادل بين سعري النفط والغاز
هذه إذاً العلاقات السعرية الأساسية في تسعير الغاز بالعالم مع وجود علاقات في عقود أخرى قد تختلف عنها بالجزئيات وليس في الأساسيات.
وعلى كل حال وبالنظر لعدم وجود علاقة سعرية مباشرة تربط أسعار الغاز بأسعار النفط على أساس المكافئ الحراري إلا أن المنافسة والتأثير المتبادل بين سعري النفط والغاز قائمة.
ففي الفترة بين 1988 و2000 كانت أسعار النفط في الولايات المتحدة أعلى من أسعار الغاز على أساس المكافئ الحراري بينما اقتربت كثيرا بين 2000 و2004 ثم بدأت بالتباعد بعد ذلك بسبب ارتفاع أسعار النفط غير المسبوق وزيادة إنتاج الغاز بشكل حاد.
وفي 2014 بلغ سعر مليون وحدة حرارية بريطانية من النفط (الوحدة) 16.8 دولارا، بينما بلغ سعر الوحدة من الغاز 4.3 دولارات.
”
على الرغم من مطالبة كبار المصدرين المنتمين إلى منتدى الدول المصدرة للغاز بربط أسعار الغاز بأسعار المكافئ الحراري من النفط فإنه ليس هناك ما يشير إلى تحقق ذلك قريبا
”
أما في السوق الأوروبية فقد كان سعر الوحدة النفطية أعلى من سعر الغازية الواردة إلى ألمانيا باستثناء عدد سنوات معدودة التقى فيها السعران.
وفي 2014 بلغ سعر الوحدة الغازية 9.11 دولارات مقارنة بسعر الوحدة النفطية 16.8 دولارا.
أما في اليابان فقد بقي سعر الوحدة من الغاز أعلى في الأغلب من النفطية ولو بمقدار بسيط بين 1984 و2002، ثم بدأ الافتراق على إثر ارتفاع أسعار النفط، لكنه بقي متواضعا مقارنة بما حدث في أسواق أخرى.
وفي 2014 بلغ سعر الوحدة الغازية 16.33 دولارا وهو أقرب الأسعار إلى سعر الوحدة من النفط بسبب تركيبة المعادلة السعرية المعتمدة أساسا على سعر النفط.
وأخيرا نقول إن توفر كميات كبيرة من الغاز وارتفاع حجم المعروض منه في السوق الدولية وبوجود عدد من مشاريع خطوط الأنابيب والغاز المسال قيد الإنشاء وتخفيف بعض القيود في عقود التصدير -بالسماح بتغيير جهة التسليم وتقليل التزام الاستلام أو الدفع- قد أدى إلى الاتجار بكميات من الغاز في السوق الفورية الناشئة.
غير أننا ما زلنا بعيدين عما يمكن أن يسمى السعر العالمي للغاز، وسيبقى الوضع محكوما بتقلبات العرض والطلب والنمو الاقتصادي وزيادة عدد مرافئ استلام الغاز المسال، والتفاوض بين المصدرين والمستهلكين سيد الموقف في الزمن المنظور.
وعلى الرغم من مطالبة كبار المصدرين المنتمين إلى منتدى الدول المصدرة للغاز بربط أسعار الغاز بأسعار المكافئ الحراري من النفط فإنه ليس هناك ما يشير إلى تحقق ذلك قريبا.