غالباً ما تُرمى البلاد الافريقية في لبنان بعبارات تدل على الإستخفاف والإذلال، نظراً الى الموروث الثقافي والاجتماعي لدى معظم اللبنانيين، والذي ينظر الى تلك البلاد على انها بلاد التخلف والجهل، وبلاد انعدام الحضارة والتكنولوجيا. لكن ما يجهله معظم اللبنانيين، هو ان البلاد الافريقية تتقدم على لبنان بأشواط، لجهة الخدمات الأساسية، وخاصة خدمات الكهرباء والمياه. وان كان من غير الممكن إبعاد صورة “التخلف” السياسي والإجتماعي عن تلك البلاد، والذي يعود الى سياسات منظمة تمارسها الدول الكبرى ذات المصالح هناك، وأهمها أميركا وفرنسا وبريطانيا، وإسرائيل عن طريق “اللوبي”.
بعيداً من الأوضاع السياسية والإجتماعية، فإنه من غير الممكن مقارنة انتظار اللبنانيين لساعات الكهرباء يومياً، بنعمة تأمين الكهرباء بتغذية 24/24 في بعض دول افريقيا. ناهيك عن عدم ملاحظة المواطنين هناك لأزمة إصلاح الأعطال ودوامة الموافقات الرسمية على صيانة وتجهيز معامل التغذية… وما الى ذلك.
تلخيص واقع الكهرباء في لبنان، عن طريق عرض نموذجين افريقيين، يفضي الى وصف وضع الكهرباء في بلادنا، بأنه في العصر ما قبل الحجري. ففي الكاميرون والموزمبيق على سبيل المثال لا الحصر، لا يركض المواطن الافريقي أو الأجنبي، لكي يلحق بالمصعد الكهربائي، ليتفادى الصعود الى منزله على الأدراج. ولا يسارع هؤلاء الى تركيب إشتراك في المولدات الخاصة، اذ ان المولدات تنتشر في المصانع والشركات، تفادياً لأي طارىء قد يصيب الكهرباء، ويؤثر على حركة الانتاج، وفي ما عدا ذلك، يكتفي الموجودون على أرض الدولتين بكهرباء الدولة.
في الكاميرون يدفع من يملك منزلاً عادياً، يضم أدوات كهربائية تقليدية، مع مكيّف للهواء، حوالي 100 دولار شهرياً. وهذه القيمة يمكن تعميمها على حوالي 5 دول مجاورة تعتمد العملة نفسها. والى جانب هذه الكلفة التي لا تكاد تغطي اشتراك المولدات الخاصة في لبنان، لا يعرف الكاميرونيون شيئاً عن التقنين، اذ لا تنقطع الكهرباء الا في حالات طارئة، سرعان ما تعمل فرق الصيانة في شركة الكهرباء على اصلاحها.
لا تختلف حال الكهرباء بين الموزمبيق والكاميرون، لكن تنفرد الموزمبيق بإعتماد نظام خاص لتوصيل الكهرباء الى المنازل، ومراقبة الاستهلاك، ومنع التعديات على الشبكة الكهربائية. فالموزمبيق لا تعرف نظام العدادات التقليدية التي نستعملها في لبنان، فلا اسلاك معلقة يخاف منها المواطنون، ولا قرصاً معدنياً يدور ويدور ليسجل حجم الاستهلاك، وبالطبع، لا وجود للتعديات على الشبكة، لأنه لا يوجد أسلاك ظاهرة. فالتمديدات الكهربائية على أغلب الأراضي الموزمبيقية، تحت الأرض، الأمر الذي يمنع التعديات الى حد يفوق الـ 90%، وفي المقابل، يحمي ذلك الشبكة من الأضرار، في حالات الظواهر الطبيعية كالعواصف والأمطار وغيرها.
اما العدادات، وفق ما يذكره يوسف فاضل، أحد اللبنانيين الذين يعيشون في الموزمبيق، هي عبارة عن آلة تركّب خارج المنزل، وآلة أخرى داخله، والآلتان تعملان لاسلكياً، ويتم توصيل الكهرباء الى الآلة الخارجية، والتي بدورها توزع الكهرباء في المنزل. ويضيف فاضل لـ “المدن”، ان الكهرباء لا تعمل في المنزل الا بعد “تشريج” الآلة الموجودة في الداخل، والتشريج يكون عبر نظام الدفع المسبق، تماماً كما تعمل البطاقات الخلوية في لبنان، ويمكن للمواطن تشريج الكمية التي يريدها، ليستعملها على مدار الشهر، بحسب الأدوات الكهربائية التي يملكها.
نظام الدفع المسبق بحسب فاضل، يمنع الضغط على الشبكة الكهربائية، لأنه لا يمكن للمواطن تحميل الشبكة اكثر من كمية “الفولت” التي دفع ثمنها، اذ ان استهلاك كل الكمية دفعة واحدة، تعني انهاء “التشريجة”، وانقطاع الكهرباء، لأن انتهاء الكمية المدفوع ثمنها، يعني توقف ارسال الاشارة بين الآلتين، وبالتالي ينقطع تزويد المنزل بالكهرباء، الى حين تشريج دفعة جديدة، واعادة توصيل الاشارة بين الآلتين.
وما تقدّم، لا يعني ان المواطن يعيش هاجس انتهاء “التشريجة” ودفع اكلاف اضافية، فتشريج “كارت” بقيمة حوالي 30 أو 40 دولاراً شهرياً، يكفي لتشغيل ادوات كهربائية في منزل عادي، كالتي في غالبية المنازل اللبنانية. اما امتلاك المواطن لأدوات كهربائية اضافية، وعدد من مكيفات الهواء، يرفع الكلفة، لكن ليس الى حد خيالي كما يحصل في لبنان. وفي السياق عينه، تؤدي عملية مكننة توصيل الكهرباء واسهلاكها، الى توفير كلفة توظيف جباة، فضلاً عن التخلص من ازمة الرشى وغض النظر وعقد الصفقات بين اصحاب المنشآت والجباة، فالدفع المسبق يعفي شركة الكهرباء من أي تبعات سلبية قد يرتبها حب امتلاك المال، لدى الكثير من الجباة.
لا تعني الصورة شبه المثالية لواقع الكهرباء في الموزمبيق، ان تلك البلاد خالية من المشاكل في هذا القطاع. ويشير فاضل الى ان التعديات موجودة، لكن بنسب بسيطة جداً، وفي حال اكتشاف شركة الكهرباء لأي تعدٍّ، يدفع المتعدي ثمناً باهظاً، يصل الى حد السجن، وعموماً، فإن الكلفة المنخفضة للكهرباء، لا تفسح المجال امام اي تعديات. وفي حال حصول الاعطال، يروي فاضل حادثة احتراق محطة توليد، منذ حوالي أسبوع، وبفعل الحريق، دمرت مولدات المحطة وموجوداتها بشكل كامل، لكن برغم ذلك، لم تشهد المنطقة تقنيناً يتعدى الساعتين في اليوم، ومن المنتظر ان تعود المحطة الى سابق عهدها، في غضون 40 يوماً.
المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في افريقيا، قد تكون متراكمة الى حد التأزم، لكن أهل تلك البلاد، عرفوا كيف يحيّدون حاجاتهم اليومية عن خلافاتهم السياسية، على عكس ما يحصل في لبنان، حيث تتقدم المصلحة السياسية – الفئوية، على المصلحة العامة، حتى في تأمين أبسط مقومات العيش. ليصبح التساؤل مشروعاً، حول هوية الدولة المتخلفة فعلاً، دولتنا أم الدول الأفريقية؟