بكنزة خضراء ذات ياقة كحليّة موسومة بشعار شركة ملابس أجنبيّة فاخرة وبنطال وحذاء رياضيين، دخل عمر بكري فستق إلى قاعة المحكمة. الجميع كان ينظر إلى ملامح الرجل، يتعقّب نظراته المتنقلة بين الأرض والساعة المثبتة في أعلى الحائط، بعدما خلع نظارته ليتلمّس وجهه ويمسح بأطراف أصابعه لحيته البيضاء المتدلّية.
صار البعض يحلّل: هي دلالات على أنّ الرجل محزون بعد ورود معلومات، أمس الأوّل، عن مقتل ابنه البكر محمّد خلال قتاله إلى جانب تنظيم “داعش” في حلب. لا إجابة على ملامح الرجل الذي لم يظهر عليه أثر فقدان ابنه البكر ذي العشرين عاماً، بل وقف يستمع إلى التّهم المسندة إليه بانتباه، هازاً رأسه وعلى فمه نصف ابتسامة تدلّ على الاستهزاء.
لم يرُق لرئيس المحكمة العميد الركن الطيّار خليل ابراهيم إبقاء فستق، والمدعى عليهما الآخرين الفلسطيني صالح الحسن وعبد الناصر شطح بجرم الانتماء إلى تنظيم إرهابي مسلح يشكل امتداداً لـ “جبهة النصرة”، داخل النظارة بعد بدء الجلسة المخصّصة للمرافعة قبل إصدار الحكم عليهم وعلى هيثم مصطفى الملقّب بـ “هيثم الشعبي” وشقيقه محمّد مصطفى وأسامة الشهابي، بل طلب إخراجهم.
بخطوات متثاقلة، مشى الداعية الإسلامي نحو قوس المحكمة، ليجيب عن سؤال ابراهيم إن كان عنده ما يضيفه قبل المرافعة، ليعود ويؤكّد أن لا دخل له بهذا الموضوع ولا يرتبط بـ “داعش” بل إنّ “الدولة الإسلاميّة” أُنشئت بعد دخوله إلى السجن.
ربّما وجدت هيئة المحكمة الوقت مناسباً لسؤاله عن ابنه محمّد، ليظهر جلياً أنّ الرجل لا علم له ولا خبر بأن ابنه قضى خلال المعارك السوريّة، بل أكثر من ذلك إنّه “يضع يديه في مياه باردة” على اعتبار أنّ “محمّد لا يهتمّ بالقتال ولا بالدّين”.
صورة محمّد العالقة في ذهن والده والتي يريد إقناع الجميع بها، هي: شاب عشريني لا علاقة له بالتنظيمات المتطرّفة، مولع بالرياضة على أنواعها، وبقي في بريطانيا إلى جانب زوجته وأولاده من دون أن يتواصل معه دائماً. هذا ما أكّده فستق للعميد ابراهيم بجزء منه ثم قاله أمام وكيل الدفاع عنه المحامي محمّد حافظة الذي قابله بعد انتهاء الجلسة.
يحتفظ فستق لنفسه بهذه الصورة التي ألفها “بحسب علمي، قبل أن أدخل إلى السجن، فأنا في رومية منعزل عن العالم لا أحد يراني وأنا لا أرى أحداً سوى السّجان. سجين واحد يبيت في غرفتي وهو نفسه الذي يخرج معي خلال النزهة”.
قال الرجل جملته هذه وكأنّه حفظها من دون أن يسأل ما سبب الاستفسار عن نجله البكر. إذاً ينفي فستق أن يكون ابنه قد زار سوريا أصلاً كما أنّه أفهم الجميع أنّ لا علم له بأنّ ابنه قد تعرّض لأي مكروه، برغم أنّ الموقوف يتابع التلفاز الموجود داخل غرفته، فهو لم يكلّ خلال استجوابه من التذكير بنشاطات حملة “طلعت ريحتكم”، وبرغم أنّ جميع التقارير الأمنيّة وأحاديث عائلة فستق ومشايخ مقربين منه يؤكدون أنّ محمّد كان يقاتل في سوريا منذ ما قبل دخول والده السجن وكان يتحدّث مع عائلته خلال الأسابيع الأخيرة من حمص تحديداً.
أوحى فستق أو صدق، فقد يكون تقصّد ربّما أن يرتدي ألواناً فاقعة على غير عادته خلال جلسات استجوابه، بأنّه لا يتواصل مع عائلته وأنّه لا يعلم أنّ ابنه البكر موجود في سوريا أو حتى مات!
“أنا مقطوع من شجرة. أنا منعزل. أنا ما في ابن مرة طالب بإخراجي من السجن، فكيف يعقل أن أكون قد شكّلت مجموعة مسلّحة؟ القضيّة أكبر من حجمها”، بصوت متهدّج قال فستق هذه الكلمات ليظهر نفسه رجلاً مظلوماً يطلب “مرافعة من ظالم”. ولكن الصوت المتكّسر صار يعلو، فالشيخ الآتي من بريطانيا يعرف كيف يتحكّم بنبرة صوته الذي سرعان ما “تكرج” الكلمات من فمه بسرعةٍ قياسيّة ويعرف متى يتحدث بلغة فصيحة لشيخ ومتى يقول العاميّة باستهزاء مستحضراً نكات أو شخصيات من خارج السياق.
يرتفع صوت فستق داخل “العسكريّة”، متسائلاً عن أي “إرهاب وكباب هذا”. ينتهي من فيلم عادل إمام ليسارع إلى استحضار هيفاء وهبي قائلاً إنّه ظهر مع عدد من إعلاميي البرامج السياسيّة لكنّه لم يظهر مع وهبي. ولأنّها ليست المرّة الأولى التي يتردّد فيها اسمها على لسان الداعية السلفي، سأله ابراهيم عن هيفا وهبي، ليجيب: “قد يكون قلب هيفا أرحم”.
وسريعاً، بدأت الكلمات تنفلت من فم فستق، الذي أعاد ما كان يقوله في السابق، مشيراً إلى أنّه “لم يسمع باسم أسامة الشهابي وباقي المتهمين إلا أمام المحكمة”، مشيراً إلى أنّ “ما فعله كثير من الناس كان أكبر مما فعلته أنا، أنا كان لساني طويلا وأتحدّث على البرامج التلفزنونيّة، ولكنني لم أفعل شيئاً”.
ولدى سؤال شطح عما إذا كان نادماً، وهو الذي أرسله فستق إلى بيروت لكي يقابل أحد الأشخاص الذي كان يتصل به عبر “سكايب”، فأقلّه إلى مخيّم عين الحلوة حيث قابل هناك “الشعبي” وشقيقه والشهابي اللذين سألاه عن فستق وإمكانية تبادل الخبرات لإنشاء إمارة إسلاميّة في الشمال ووصلها بعين الحلوة. ينفي شطح أن يكون على علم بأنّ فستق كان ينوي إرساله إلى عين الحلوة، ومع ذلك لم يبلغ الأجهزة الأمنيّة عمّا دار يومها.
حبس فستق 6 سنوات
وقد ترافع وكلاء الدفاع المحامون عارف ضاهر عن الحسن، ثمّ نشأت فتّال عن شطح ومحمّد حافظة عن فستق، فيما أصدرت هيئة “العسكريّة” الدائمة حكمها الذي قضى بالأشغال الشاقة لمدة 6 سنوات لفستق والأشغال الشاقّة لمدّة 5 سنوات للحسن ومثلها لأربع سنوات لشطح، والأشغال الشاقة المؤبدة للشهابي و”الشعبي” وشقيقه محمّد، مع تجريدهم جميعاً من حقوقهم المدنيّة.