تقرير رولان خاطر
لبنان أرض القداسة. ترابه يعبق رائحة بخور وقصصاً عن بطاركة ومناضلين في سبيل المسيح أصبحوا قديسين، وملجأ لكل مثقل بهموم الأرض. ولأن اللبنانيين هم أكثر من ينحتون القداسة على وجوه الأيام الصعبة، كان لهم “نعمة” حفر تمثال القديسة ريتا، الذي أخذ البحر طريقاً إلى ضيعتها كاشيا في إيطاليا.
التمثال الذي رفع على مدخل المدينة في 18 تشرين الأول، كرّسه قداسة البابا فرنسيس في احتفال في ساحة الفاتيكان في أواخر أيلول الماضي.
الفنان الناحت نايف علوان، ابن بلدة أيطو – قضاء زغرتا، الذي له أعمال عدة في مجال نحت تماثيل القديسين، منها تمثال القديس مارون في بكركي، وتمثال البابا يوحنا بولس الثاني في بازيليك سيدة لبنان في حريصا، شرح لـIMLebanon مراحل نحت تمثال القديسة ريتا، وكيفية وصوله إلى ايطاليا.
فأشار إلى أنه بداية، كان هناك مشروع من السلطات المحلية في كاشيا إقامة تمثال للقديسة ريتا، فطلب مني الأب شربل مهنا ان يكون لي دور في هذا المجال، فقدمت نموذجاً عن فكرة التمثال الذي استوحيته بداية من وجه القديسة ريتا، ومن سيرة حياتها.
أسلوب نحت تمثال القديسة ريتا مأخوذ من محطات عدة من مسيرتها الرهبانية، فوجود العنب يرتبط بالفترة الأولى التي دخلت بها “سانت ريتا” إلى الدير، والقصة تقول إنه “ذات يوم رأت الأم الرئيسة أن تفرض على الأخت ريتا بأن تسقي صباحاً ومساء جذع شجرة ميت منذ زمن طويل يقع عند مدخل الدير. وذات يوم فوجئ الجميع أن ذلك الجذع تكسوه كرمة ناضرة تتلألأ بعناقيد من العنب ذات رائحة جميلة، فتعجّبن لذلك جميع الراهبات وسجدن مسبحات الله، وهذه الكرمة باقية ليومنا هذا وتُعرف باسم “كَرْمـة القديسة ريتا”. أما الورد والتين إضافة إلى النحل، فأيضاً لهم محطاتهم العجائبية في حياة القديسة.
نحت تمثال القديسة ريتا كانت مسؤولية كبيرة ألقيت علينا، كما يقول علوان، خصوصاً ان هذا العمل بالنسبة إلينا يجب ان يعكس صورة لبنان الحقيقية، لبنان الايمان، والقداسة، والالتزام بالله والانسان. وهذا أمر ظهر جلياً عندما ارسل التمثال إلى الفاتيكان لتكريسه من قبل قداسة البابا فرنسيس. فما كان من قداسته إلا ان تأثر جداً بأسلوب العمل، وقال عندها: “لا أستطيع إلا أن أرى القداسة في وجهها، وعيناها تتلوان الصلوات”، وهذا امر جعلني أتاكد انني أوصلت الرسالة بكل امانة.
في المقابل، أظهر تفاعل الناس من لبنانيين وغير لبنانيين مع التمثال مدى الجدية في العمل الذي تعبنا لتحقيقه وإيصال رسالة واضحة من خلاله، وهو ان عمق معنى الحياة السير بمشيئة الرب وعلى خطى القديسين.
علوان، اعتبر ان طريقة تعاطي العالم مع هذا الحدث، أزال نوعاً ما الصورة السوداوية والمأساوية عن لبنان. وقد ساهم الإعلام العالمي والمحلي في إحداث نوع من الأمل والرجاء في قلوب اللبنانيين الذي يعانون مرارة العيش في لبنان. ولفت إلى تقدير اللبنانيين وغير اللبنانيين للعمل الذي أنجز.
علوان يعتمد بشكل أساسي على مخيّلته في صنع المنحوتات، فـ”الانسان ابن بيئته”، وهو ابن وادي قنوبين. كما يقول، وإن كانت القديسة ريتا ايطالية، إلا ان فيها شيئا من لبنان.
أوضح ان العمل استمر نحو سنة متواصلة لإنجاز التمثال، سبقه ثلاثة أشهر من التحضيرات، وتجهيز الحجر “القاعدة” الذي سيرتكز عليها التمثال، ويبلغ وزن الحجر 76 طنا، وطوله 6 امتار.
لا ينسى علوان شكر رجل الأعمال سركيس سركيس، الذي موّل العمل كاملا، ويشير إلى حادثة طريفة حصلت معه، لكنها في معناها رسالة عميقة، إذ صادف أثناء وجوده في إيطاليا سيدة، عبّرت له عن تقديرها لعمله، طالبة منه ان ينتقل إلى بلدها ويستقر هناك ليعلّم الجميع كيف يصنع “وجه القداسة”.
أعمال كثيرة يشتهر بها الفنان علوان الذي بات اسمه ينافس عالمياً، فهو إضافة إلى المنحوتات التي يمكن رؤيتها في كل دير ومزار لبناني من عنايا إلى جربتا وكفيفان وغيرهم، يتحضر الآن إلى نحت تمثال مار مارون، الذي سيرسل في 9 شباط 2016 إلى أوستراليا، لمناسبة بناء كاتدرائية مار مارون في سيدني.
“لتكن مشيئتك لا مشيئتي”، هو شعار لطالما رددته القديسة ريتا. من هنا، فإن الرسالة واضحة، العبرة من إقامة التمثال ليس التمثال بحد ذاته، بل معانيه ورمزيته التي أوصلها الفنان علوان بإبداعه الفني، وهو استقاء الدروس من حياة القديسة ومسيرتها التي سخرتها من اجل يسوع وتعاليمه، والتي تؤكد ان السعادة الحقيقية لا تكون إلا بالخلاص، والذي لا يتحقق إلا بالمسيح الحيّ، الذي يدفعنا إلى الوقوف امامه وامام ذاتنا مردّدين: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”.