IMLebanon

المحرقة المتنقلة: «البزنس» ينتصر على البيئة

waste-incineration-plant-Sweden
رلى ابراهيم

سارع الصناعي ورجل الأعمال، وزير السياحة السابق، فادي عبود، الى شراء «محرقة متنقلة» صغيرة من بريطانيا وأدخلها الى لبنان عبر مرفأ بيروت بوصفها «ماكينة صناعية». سبق ذلك حملة قادها عبود شخصياً عبر تصريحات ومقالات ضد «شيطنة المحارق»، وقدّم نموذج «المحرقة»، التي استوردها، على أنها من الجيل الرابع في هذا المجال، وتستوفي الشروط البيئية والصحية، وقدّمها الى الرأي العام باعتبارها أحد الحلول التقنية لمشكلة النفايات.

وضع عبّود هدفاً له، وهو التصدي للاعتقاد الشائع بأن «المحارق» تشكّل خطراً على الناس، ولا سيما في ظل التكنولوجيا الجديدة المعتمدة في العديد من البلدان، معتبراً أن السياسات المعتمدة ترضخ لهذا الاعتقاد وتسايره. لذلك اتفق مع وزير التربية الياس بوصعب على خلق أمر واقع عبر حرق نفايات بلدية ضهور الشوير وعين السنديانة في المتن، كتجربة قابلة للتعميم على بلديات أخرى في حال ثبوت نجاعتها، وهو بدأ فعلاً بإجراء اتصالاته مع عدد من البلديات قبل أن يجري التجربة نفسها.
ولكن ما إن خرجت المحرقة من مرفأ بيروت حتى رافقتها المشكلات، إذ أبلغت رئاسة دير مار يوحنا الصايغ في الخنشارة أصحاب المحرقة بضرورة نقلها ومعداتها من الأرض التابعة للرهبنة. والسبب، وفقاً لمصادر الدير: «تصاعد الأصوات المعترضة على وجود المحرقة في البلدة والتهديد بخروج تظاهرات إذا ما تمّ تشغيلها على أراضي البلدة».
كان الدير قد وافق في البداية على استخدام الأرض العائدة له، يقول المصدر إن موافقة الدير جاءت «نتيجة ضغط عدد من البلديات المجاورة علينا جراء تكدّس النفايات في المنطقة، لكننا لم نلتزم بشيء مع المعنيين سوى السماح لهم بوضع الماكينة على أرضنا مؤقتاً، بعدما تمنّوا علينا ذلك، حتى لا تبقى في المرفأ وتكلفهم ضرائب ورسوماً إضافية». يشير المصدر الى أن أصحاب المحرقة «قالوا لنا إنها غير مضرّة بالبيئة، ولا ينتج من عملها أي تلوث، ولكن لا يمكن أن نعوّل على هذه الأقوال في ظل الوعود الكثيرة التي تلقيناها بحلّ أزمة المجارير المتفلتة داخل الدير من دون أي نتيجة. فكيف سنثق بمتابعتهم لعمل محرقة وضمانهم الحفاظ على الظروف البيئية؟ نحن نتعاون مع الجميع، ولكن ليس على حساب الدير وأهلنا».
يقول عبود لـ»الأخبار» إن «المشكلة حُلّت والمحرقة موجودة الآن على أرض في ضهور الشوير حيث ستعمل من هناك». ولكنه ينفي ما صدر على لسان الوزير بوصعب لجهة تشغيلها اعتباراً من اليوم الجمعة، موضحاً أن التباساً حصل، إذ في هذا اليوم، أي الجمعة، سيصل «الخبراء الإنكليز لتجهيزها”.
هل سيجري تشغيل المحرقة قبل الحصول على موافقة وزارة البيئة؟ لا يوجد جواب عن هذا السؤال، إلا أن مصادر وزارة البيئة تؤكّد أنها لم تتلق حتى الساعة أي «طلب لإجراء تجارب على المحرقة المذكورة»، علماً بأن المصادر نفسها لا تجزم برفض إجراء التجربة، بل تتحدث عن «ضرورة إرسال النتائج الى المختبر لفحص أثرها البيئي. وهو ما يحتاج إلى أسبوعين في الحدّ الأدنى». يقول الخبراء إنه لا وجود في لبنان لمختبرات قادرة على إصدار مثل هذه النتائج!
تجربة محرقة عبود ليست الأولى من نوعها، ففي عام 1997 أُحرقت «محرقة العمروسية» إثر ندوة لسكان المنطقة حول مخاطرها على صحة السكان والبيئة. وفي عام 2012، منع الأهالي رئيس بلدية شكا فرج الله الكفوري من تشغيل محرقة على اعتبار أن تشغيلها بمثابة «مشروع تهجير لهم وسبب رئيسي للأمراض السرطانية جراء الانبعاثات والغازات المسرطنة التي تنتج منها». والجدير بالإشارة أن لبنان وقّع في عام 2002 على معاهدة استوكهولم، التي تمنع استحداث محارق جديدة كونها تشكل مصادر أساسية لغاز الديوكسين. وفي هذا الإطار، يجمع خبراء البيئة على الأضرار الفادحة التي تسببها المحارق. تقول فيفي كلاب (دكتورة متخصصة في علم البيئة ورئيسة التحالف اللبناني نحو صفر نفايات) لـ»الأخبار»، إن «المحرقة تستطيع الحصول على صفر انبعاثات في الهواء، ولكن ما لا يتحول الى انبعاثات يصبح رماداً. 5% من هذا الرماد يسمى الرماد المتطاير أو fly ash، الذي يعد مواد سامة تتطلب معالجتها تجهيزات خاصة وخبراء متخصصين؛ ففي أوروبا مثلاً، يتم ترحيل الرماد الى مطامر خاصة للمعالجة في ألمانيا والنروج، وغالباً ما تكون على عمق 800 متر تحت أرض مكونة من الملح أو الغرانيت».

تُعتبر محارق النفايات المنزلية من أهم مصادر غاز الديوكسين (مادة مسرطنة وتتسبب بالعقم)، «ولا يمكن فحص مستواه وضرره سوى في فرنسا التي تملك 6 مختبرات. فهل سيتم إرسال عينة كل أسبوع من لبنان الى فرنسا لضمان عدم تخطي المحرقة الكمية المسموح بها؟ ومن يضمن ويراقب الخبراء المفترض بهم إرسال وتلقي نتائج هذا الرماد السام؟»، تسأل كلاب.
بحسب خبراء البيئة والصحّة، لا تنحصر الأضرار بالسكان الذين يعيشون بالقرب من المحرقة، وإنما أيضاً بأولئك الذين يعيشون في نطاق أوسع، فالأضرار تشمل الهواء والماء والتراب، وبالتالي المياه والمزروعات. تقول كلّاب إنه ينبغي على عبود الكشف عما يعتزم فعله بالرماد السام الذي لا حلّ له سوى بترحيله الى الخارج، وهل صحيح ما يشاع عن رغبته بطمره هنا؟ كذلك يفترض به إبلاغ الرأي العام عن هوية المُكلّف بمراقبة فلتر الهواء حتى لا يتم التلاعب به ويبث السموم بين السكان. تقول كلاب: «في واشنطن، أوقفوا العمل بالمحرقة لعدم تمكنهم من السيطرة على التلوث الناجم عنها، والبنك الدولي نفسه أبلغ الشركة الاستشارية أن المحرقة لا تصلح للعمل في لبنان». وتشير الى أنها «أرسلت الدراسة البيئية التي تؤكد خطورة عمل المحرقة الى وزير التربية، ومع ذلك هناك إصرار على تشغيلها في بلد متفلت من أي رقابة أو محاسبة».
يدحض عبود كل ما سبق. يردّ: «كله كذب، وما يتبقى من رماد هو بمعدل 3%، وليس سامّاً، لأنه يعالج على حرارة عالية تفوق 1250 درجة، ويتم خلطه مع الزفت أو الباطون، فيندثر كلياً». يندثر كلياً أم ينتشر على الطرقات والمباني السكنية والتجارية؟ يسأل خبراء بيئة.
وفي ما خص انبعاثات الغاز والشركة التي ستراقب عمل المحرقة، يرد عبود «أن الأمر يتعلق بنوعية المواد المحترقة، طريقتنا هي الفرز في معمل ننشئه حالياً في ضهور الشوير، ثم حرق البقايا وهي مواد غير مضرة بالبيئة نهائياً. كل الدراسات حول هذا النوع من الماكنيات تشير الى عدم تلويثها للجوّ». ويلفت عبود، في سياق تعزيز ما يدلي به، الى وجود محرقة مماثلة، لكن أصغر حجماً، في الجامعة الأميركية، وكذلك هناك نحو 350 محرقة أخرى في لبنان (لا يحدّد مكانها ومن يستعملها)، كما أنها معتمدة في كل أصقاع العالم كالسعودية والإمارات وسويسرا وفرنسا». «يطمئن» عبود خبراء البيئة الى أن «ما تنتجه النفايات المحترقة يومياً من غاز الديوكسين يوازي ما يمكن أن يصدر عن المحرقة لمئة سنة، محركها أقل من 10 kva والبريطانيون سيفحصون الغاز، وإذا تبين أن هناك ضرراً بيئياً فسنعيدها بكل بساطة».
إذاً، المحرقة تم إدخالها الى لبنان من دون إذن مسبق، كأي آلة صناعية، ويتهم صاحبها منتقديها بأنهم على الـ»payroll» عند سوكلين. يقول إن «المال الذي يصرف منذ 20 عاماً حتى الساعة هو لشيطنة المحارق والإبقاء على المطامر، بدليل أنهم يخترعون المعارك قبل اطلاعهم على نوع المحرقة ومصير الرماد المتطاير… أين كانت وزارة البيئة والبنك الدولي عندما كان ميسرة سكر يطمر كل شيء؟ الأكيد أنهم لا يريدون للبلديات أن تستقل عن سوكلين وأخواتها».
كلام عبّود يتماشى مع الخطاب الرائج حالياً، ولكن خبراء بيئة كثيرين ينظرون إليه بوصفه كلاماً صادراً عن شخص يريد أن يستفيد من «البزنس»، ويرفض أكثر من خبير المحاججة مع «كاتالوغ» صادر عن الجهة المصنّعة أو المسوّقة للمحرقة، فالأكيد أن هذه الجهات، مثل عبود، يريدون أن يبيعوا منتجاتهم ولن يقولوا «زيتهم عكر». كل الأمر برسم وزارة البيئة، فهي الجهة الوحيدة المخولة صلاحية بتّ هذا الشأن رسمياً، إلا أن السؤال يبقى حول مدى أهلية الوزارة في أداء دور المراقب، في ظل وزير استقال من مسؤولياته تاركاً النفايات تسبح في الطرقات وتُحرق بين المنازل من دون الاكتراث للتلوث البيئي ولا لصحة المواطنين والأطفال.