ينبعي حماية هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”. لو لم تكُن موجودة الآن لم يكُن بإمكاننا ابتكارها. هذا يجعل الحفاظ عليها أكثر أهمية بكثير. محطة “بي بي سي” هي من بين الإنجازات الأبرز في المملكة المتحدة. مهمتها المتمثلة في “توصيل الأخبار، والتثقيف، والترفيه” تبقى ذات صلة اليوم بقدر ما كانت عليه عندما أسّست في عام 1922. وقبل كل شيء، يجب أن تتذكر الحكومة أنها ليست مُلكاً لها. بل تنتمي إلى الشعب، الآن وإلى أجيال مقبلة.
قبل نحو عقدين من الزمن كنت أعتقد أن التكنولوجيا الرقمية من شأنها تقويض الحجة الداعية إلى وجود قناة بث عامة مجانية الاستخدام. ذلك الآن يبدو أمرا يدل على قصر النظر. الحجة لم تتغيّر. لكن إن كانت قد تغيرت فهذا لأنها أصبحت أقوى.
كما أوضح جافين ديفيز، رئيس مجلس إدارة “بي بي سي” السابق، في وقت المراجعة الأخيرة لميثاق الهيئة، فقد تم إنشاء شبكة “بي بي سي” لتحقيق مصلحة عامة لا خلاف عليها وتوليد بعض “العوامل الخارجية” القوية.
المصلحة العامة هي مُنتج قد لا يتم تزويد الناس به بشكل كاف في سوق تنافسية، لأنه “لا يُمكن استبعاده” وفي الوقت نفسه “غير منافس”. أنت وأنا لا يُمكن أن نأكل شريحة اللحم نفسها، لكن يُمكن أن نشاهد البرنامج نفسه. هذا هو المقصود من القول إن البث لا يُعتبر منافساً. في الأيام التماثلية (قبل الرقمية)، كان البث أيضاً لا يُمكن استبعاده: أي شخص كان بإمكانه التقاط إشارة. المزيج بين تكاليف التوزيع الثابتة العالية والتكاليف الهامشية بمقدار صفر جعل البث بمثابة احتكار طبيعي. وشبكة “بي بي سي” كانت الحل.
من خلال خدمتها العامة، وفّرت شبكة “بي بي سي” أيضاً عوامل خارجية إيجابية بشكل كبير – فوائد تعود على المجتمع تتفوّق على ما يدفع مقابله أولئك الأفراد. تلك العوامل الخارجية شملت بناء مواطنة مُستنيرة، ومُحاسبة السياسيين، وإيجاد مجموعة من التجارب المُشتركة. لقد قدّمت “بي بي سي” مساهمة حيوية لصحة ديمقراطيتنا الجديدة المبنية على الاقتراع العام.
شبكة “بي بي سي” مؤسسة عامة لكنها ليست تابعة للحكومة. هذا ما جعلها موثوق بها في المملكة المتحدة وحول العالم. شبكة “بي بي سي” ليست ملكاً للنخبة، بل تنتمي إلى الشعب، لأن الشعب يدفع لها مباشرة.
هل التكنولوجيا الجديدة ومرور الوقت أضعفت هذه الحجج؟ من ناحية، نعم. ومن نواحٍ أخرى، لا.
مع أن البث لا يزال يُعتبر غير منافس، إلا أنه قابل للاستبعاد. فمن الممكن فنياً تحويل شبكة “بي بي سي” إلى خدمة اشتراك واحدة أو عدة خدمات. لكن، كما يذكر ديفيز، البث لا يزال غير منافس والتكاليف الهامشية للبث لا تزال صفرا. الانتقال إلى الاشتراك من شأنه القضاء على الحجم الكبير من القيمة الفائضة.
جميع الحجج الأخرى لقناة البث العامة أصبحت حتى أقوى من قبل. في عام 1922 كانت المملكة المتحدة أمّة متجانسة وحدّتها حرب حديثة. اليوم، هي أكثر تنوّعاً بكثير. الحاجة لتوحيد الناس أكبر بكثير الآن مما كانت في ذلك الحين. إذا كان هناك أي شخص يرغب في معرفة ماذا سيحدث إذا عملت وسائل الإعلام بتقسيم البلاد إلى مناطق معزولة، عليه النظر إلى ما حدث في الولايات المتحدة منذ القضاء على الشبكات وإلغاء “مبدأ الإنصاف”.
دانيال باتريك موينهان، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، قال: “الجميع له الحق في التمتّع برأيه الخاص، لكن ليس حقائقه الخاصة”. هذا لم يعُد يبدو صحيحاً في الولايات المتحدة. بقدر ما هو صحيح في المملكة المتحدة، ويرجع ذلك جزئياً لأن شبكة “بي بي سي” تُقدّم الحقائق المشتركة وساحة مشتركة للنقاش. المؤسسة غير مثالية، لكنها ليست مصابة بالنقص بقدر ما يزعم السياسيون ـ حقيقة أن اليمين واليسار يتّفقان على أنها مُنحازة بشكل خاص ضدهم توضح هذا الأمر. إنها أفضل بكثير من أي بدائل محتملة.
مرة أخرى، العصر الرقمي دمّر اقتصادات المعلومات. مع تحوّل الإعلان من الصحف إلى عدد قليل من المنصات العملاقة، فإن قدرة وسائل الإعلام التجارية على تمويل جمع المعلومات أصبحت ضعيفة بشكل خطير. علاوة على ذلك، جزء كبير مما تبقّى يتركّز في عدد قليل من الشركات الضخمة التي تملك أجندات تجارية وسياسة خاصة بها. بالتالي، قدرة شبكة “بي بي سي” على تمويل مجموعة كاملة من جمع الأخبار وتحليلها أصبح الآن أمرا حيويا أكثر حتى من ذي قبل.
هناك تساؤلات حول النطاق المناسب لأنشطة شبكة “بي بي سي” يجب في مواجتها أن تتذكر الحكومة ما هو ضروري. في عصر من التنوّع القومي المُتنامي، ومن الضغط العنيف على ربحية عمل جمع المعلومات، ومن هيمنة الشركات التجارية بشكل كبير، فإن قناة البث العامة أمر لا غنى عنه على نحو متزايد. علاوة على ذلك، مصدر موثوق به ومُستقل من الدخل يبقى أمراً ضرورياً. رسوم الترخيص، حتى في الوقت الحالي، هي أسوأ ترتيب مُمكن، باستثناء جميع الترتيبات الأخرى. ومرة أخرى، طالما تبقى رسوم الترخيص قائمة، فإن شبكة يجب يجب أن يُنظر إليها على أنها تخدم الجميع.
الحجة التي أُقدّمها ينبغي أن تعتبر جذابة في أعين تلاميذ إدموند بيرك: قيمة المؤسسات المُجرّبة والمُختبرة يجب أن توجّه أي حكومة من حزب المُحافظين. وشبكة “بي بي سي” هي تراث عظيم من الأجيال الماضية. ويجب تمرير هذا التراث إلى المستقبل بشكل حتى أقوى من قبل.