نادى رئيس المحكمة العسكريّة الدائمة العميد الركن الطيّار: نعيم محمود، لتسارع العناصر الأمنيّة إلى اقتياده من نظارة المحكمة نحو قاعة المحاكمات. الجميع انتظر حتى يدخل “المجرم ـ المهرّج”. فالسيناريو بات معروفاً، يدخل الموقوف ليقول عدداً من الكلمات فيضحك البعض، قبل أن ترجأ الجلسة بسبب تغيّب وكيل الدفاع عنه المحامي طارق شندب.
بحث ابراهيم مطولاً في وجوه الجالسين عن وجه شندب، فلم يجده. “الأستاذ” كان في القاعة منذ الظهر. وما إن انتهى من جلسته العاصفة التي تخلّلتها نقاشات حادة مع “الجنرال”، حتى خلع “روبه” واندفع غاضباً نحو باب المحكمة الرئيسي. خرج شندب، وبعد دقائق دخل نعيم عباس إلى القاعة نفسها.
لا تتغيّر ملامح الرجل ذي الشعر المائل إلى الأحمر. الابتسامة والاستهزاء دائماً ما يعلوان محيّاه، فيما لا يملّ من ارتداء الألبسة الرياضيّة. الفرق بالأمس أنّ الشتاء دقّ باب “أبو اسماعيل المقدسي”، ليرتدي بذلة رياضية شتوية ذات لون أسود.
أسرع من السّهم، توجّه نعيم عباس إلى قوس المحكمة التي حفظ أنحاءها غيباً. فتح ذراعيه ممازحاً: “لحالي مبيّن”، إشارة إلى أنّ لا مدعى عليه غيره في هذه الجلسة المخصّصة لاستجوابه في جرم تأليف عصابة مسلّحة وإقدامه على تفجير سيارة مفخّخة بتاريخ 24 حزيران 2007 استهدفت الكتيبة الإسبانيّة التابعة لقوات “اليونيفيل” في محلة الدرداريّة القريبة من بلدة الخيام، مما أدى إلى قتل وجرح عناصرها.
وسرعان ما نطق ابراهيم بالسؤال الاعتيادي: “مين محاميك؟”. لم يتمالك عباس نفسه قبل أن يضحك وهو يقول: “استاذ طارق شندب”، ليسأله رئيس المحكمة عن سبب ضحكه قبل أن يقول له إنّ محاميه كان في القاعة منذ الصباح وخرج للتوّ. لم يعجب “أبو اسماعيل” الأمر، فهزّ رأسه قائلاً: “مش ظابطة منّو هيك”.
وكالعادة أيضاً، أصرّ عباس على محاميه. إصرارٌ بدا مقصوداً قبل أن يؤكّده الموقوف بنفسه. وبوقاحة تامّة قال الرجل وهو يبتسم: “لن أُحاكم وأنا موقوف في سجن الريحانيّة، وقد قلت ذلك للقاضيين في التحقيق العسكري عماد الزين ومارون زخّور”، مشيراً إلى أنّ “سجن الريحانيّة هو أسوأ ما يكون، وأنا هناك لا أرى شيئاً، أنا كالأعمى”. وبجرأته المعهودة أعرب الموقوف عن سعادته بمجيئه الدائم إلى المحكمة العسكريّة فـ “هنا أرى الشباب الطيّبة”!
“اتفاق غير مباشر مع المحامي لعدم المحاكمة”!
إذاً نعيم عباس هو “موقوف ومشارط”. ولكنّ ليس شرطه، الذي أعاده أكثر من مرة أمس، هو الشيء الوحيد الذي كشف عنه، بل إنّه أكّد أيضاً أنّ الأمر هو عبارة عن “اتفاق غير مباشر بيني وبين شندب”، قبل أن يتراجع جزئياً عندما شعر أن الأمر سيفتح عليه أبواباً مغلقة، فأشار إلى أنّ “شندب لا يـأتي.. وأنا مبسوط”.
وبرغم هذه الإجابة التي بدت غير منطقيّة، فقد تراود إلى ذهن الحاضرين داخل المحكمة الكثير من الأسئلة عن كيفيّة إجراء اتفاق غير مباشر بين موقوف ومحامٍ؟ وعن سبب عدم كونه مباشراً على اعتبار أنّه من حقّ الموقوف أن يقابل وكيل الدفاع عنه أو يتحدّث معه هاتفياً؟ وعن هويّة الطرف الثالث الذي كان صلة الوصل بينهما لعقد مثل هذا الاتفاق؟ وأكثر من ذلك، فنعيم عباس لم يتوان في إحدى الجلسات عن التأكيد أنّه لا يريد المحاكمة بانتظار التسوية (مبادلته بالعسكريين المخطوفين)، فمن الذي وعده بالتسوية؟
الموقوف ليس عادياً، بل إنّه من أشهر مفخخي السيّارات في لبنان وله صلات مع المجموعات الإرهابيّة العاملة في لبنان، من “كتائب عبدالله عزّام” مروراً بـ “جبهة النصرة” ووصولاً إلى تنظيم “داعش”، الذين كلّفوه جميعاً بتحضير سيارات مفخّخة والإشراف على عمليّة تفجيرها واستضافة انتحاريين.
هي ليست المرّة الأولى التي يقول فيها نعيم عباس ما يجول بخاطره من دون أن يراعي أنّه واقف أمام هيئة المحكمة وأن كلّ كلمة تحسب عليه. فهو كان يضحك عندما اعترف في جلسة سابقة أنّه زار أمير “جبهة النصرة” أبو محمّد الجولاني ثم التقى امير “جبهة النصرة” في جرود القلمون للحديث عن “مسائل الإرهاب”.
في حين أن صراحته، بالأمس، استفزّت العميد ابراهيم الذي سأله رداً على شرطه بنقله من الريحانيّة: “يا نعيم.. ما اكتفيت بعد كلّ اللي عملتو؟ ألم يكفيك كلّ ما قمت به من تفجيرات؟”. عندها، جحظت عينا “وكيل السيارات المفخّخة”، متسائلاً باستغراب: “أنا قلت سابقاً أنني فجّرت”، وبابتسامة صحّح المعلومات مشيراً إلى “أنني مفخّخ مش مفجّر”.
وعلى الفور استذكر ابراهيم ما قاله المتّهم في جلسة سابقة، قبل أن يقاطعه نعيم عباس ويؤكّد إنّه من أهمّ مفخخي السيارات بعد “معلّمه” توفيق طه الملقّب بـ”أبو محمد”، المفخّخ رقم واحد.
صراحة نعيم عباس هذه المرّة أخرجت العميد الهادئ دوماً عن طوره، ليسارع إلى الطلب من كاتب المحكمة على القوس بتدوين ما قاله المتهم بحرفيته بشأن عدم رغبته في المحاكمة والاتفاق غير المباشر بينه وبين محاميه. أهمّ ما قاله “الجنرال” هو أنه سيعمد إلى محاكمة نعيم عباس “غصباً عنه”.
فقد توجّه العميد ابراهيم إلى عباس، الملاحق بعشرات القضايا المتصلة بالإرهاب وانتمائه إلى “كتائب عبدالله عزّام”: “أنت لا تريد المحاكمة. أنتَ حر. وأنت في هذه القضية وحدك، ولكن هناك ملفّات أخرى فيها عدد من المدعى عليهم المتوقفة فيها الأحكام بسببك أنتَ ولعدم حضور محاميك، ونحن لن نسمح بذلك بعد اليوم، إذ أنّ مصير الناس ليس بيدك، ومن غير المسموح إيقاف سير العدالة”.
وأضاف: “أنتَ موقوف مثلك مثل بقية الموقوفين، أما شروطك فهي لكَ وتفرضها في الخارج (خارج السّجن)، أمّا هنا فيوجد قانون”.
وقال ابراهيم: “أنتَ تعرقل سير المحاكمات، وبتصريح واضح منّك وعن سابق تصوّر وتصميم، وتضع الشروط أيضاً”، معلناً أن المحكمة ستراسل نقابة المحامين لتوكيل محامٍ عن نعيم عباس.. “ستحاكم يا نعيم بالقوّة.. وغصباً عنك”.
حاول الموقوف أن يقول ما لديه، ولكنّ رئيس المحكمة منعه عن ذلك. هكذا “خلص الكلام”. أرجأ ابراهيم الجلسة إلى 1 حزيران المقبل قبل أن يطلب من العناصر الأمنية إرجاع الموقوف إلى النظارة.
خلاف بين ابراهيم وشندب
من جهة ثانية، حصل نقاش حاد بين رئيس المحكمة العسكريّة والمحامي طارق شندب المتوكّل عن 6 موقوفين من أصل 12 تابعين لـ”الجيش السوري الحر” وتحديداً إلى الملازم المنشقّ عرابة إدريس. وتشير الإفادات الأولية للموقوفين إلى أنّ الأخير طلب من عناصر مجموعاته المسلّحة أن تساعد المقاتلين الذين اقتحموا عرسال في 2 آب 2014، فكانت مهمّة إحدى المجموعات هي الدعم اللوجستي لحماية المقاتلين من الخلف وفرقة أخرى شاركت في المعركة وأطلقت النّار على الجيش.
وقد حصل الخلاف على خلفيّة الإفادات الأوليّة للموقوفين التي بدت متطابقة في جزء منها بين المديرية العامة لأمن الدولة (التي أوقفت الأشخاص الـ 12 في شبعا) ومديرية المخابرات في الجيش اللبناني، فيما تدخّل شندب متحفظاً على هذه الإفادات، معتبراً أنّها سحبت منهم بالقوة وتحت التعذيب.
وبدا شندب وكأنه يدافع عن إدريس أكثر مما يدافع عن موكليه، فهو توجّه إلى المنصة متأبطاً عدداً من الأوراق التي تشير إلى أنّ “داعش” أعدمت إدريس بسبب رفضه مبايعة أميرها.
وقد ذهب المحامي، الذي يعمد إلى تأخير عدد من الدعاوى (كتلك التي تتعلّق بنعيم عباس)، إلى اتّهام ابراهيم بأنّه يريد إطالة أمد هذه القضيّة لعشر سنوات، ما دفع بالعميد إبراهيم إلى التشديد بأنّه يعرف عمله جيداً ولا يسمح لأي أحد بالتدخّل بذلك، بل هو يقرأ ملفاته ويعرف عن ماذا يتكلّم، طالباً منه قراءة الملفّ بتمعّن. فعاد شندب وأشار إلى أنّ عمل المحكمة هو العدالة، ليؤكّد ابراهيم أنّ هذا ما يفعله ولذلك هو يستجوب الموقوفين.
الأخذ والردّ طال، لينتهي بابراهيم إلى عدم قدرته على إخفاء غضبه ويذكّر شندب أن هناك مشاغبين قاموا بقتل عناصر الجيش وخطف آخرين “نحن راح إلنا 20 شاب (عسكريين)”، فرد شندب قائلاً: “نحن رحنا لعندن”، قاصداً أن الجيش هو الذي ذهب إلى المجموعات الإرهابيّة!
ثم عقّب شندب بالقول: “إعدموا المتورّط. نحن أكثر الناس الذين نؤيد حكم الإعدام، ولكن هؤلاء الموقوفين الذين ينتمون إلى مجموعة عرابة إدريس أبرياء، وهم الوحيدون الذين لم يتدخّلوا في معركة عرسال، وموضوع الجيش الحرّ مختلف كلياً وهؤلاء لم يخالفوا القوانين اللبنانيّة”.
كما أكّد أن عناصر الجيش الذين حققوا مع الموقوفين أبرحوهم ضرباً، متسائلاً: “تصدّقون رتيباً في المخابرات أم قاضي التحقيق؟”.
وبعد النقاشات المحتدمة، أكمل ابراهيم استجواب اثنين من الموقوفين ساطع السخنة ومحمّد ادريس، ليعود ويتجدّد الأخذ والردّ، فما كان من ابراهيم إلا أن توجّه إلى شندب قائلاً: “بتعرف شو مشكلتك يا أستاذ، مستعدّ تصدّق أصغر مجرم وتكذّب أكبر ضابط”، لينفي الأخير الأمر لافتاً الانتباه إلى أن مشكلته أنه يريد العدالة وتبيان الحقيقة.
وبعد ذلــك، أرجأ ابراهيم الجلسة لاستكمال الاستجواب إلى 1 كانون الثـاني المقـبل.