روبن هاردينج
بعد أيام قليلة فقط على توليه مهام عمله، أطلق كورودا قذيفته الكبرى: تعهد بدفع التضخم إلى نسبة 2 في المائة خلال عامين، مدعوما بشراء سندات حكومية تبلغ قيمتها 50 تريليون ين في السنة. فجأة، أطلق البنك المركزي الأكثر سكونا في العالم برنامج شراء السندات الأكثر نشاطا في العالم.
قال كورودا لجمهور أعمال متشكك في أول خطاب له محافظا “شعرت بقوة بأنه ينبغي لنا أن نبذل جهودا شاملة (…) بدلا من اعتماد نهج تدريجي. علينا أن نفعل كل ما هو ضروري للتغلب على الانكماش”.
كان حافز بنك اليابان هو المحرك الصاروخي لمحاولة رئيس الوزراء المنتخب حديثا، شينزو آبي، إقناع المستهلكين والمستثمرين والشركات اليابانية نفسها والعالم بأنه ينبغي لهم مرة أخرى استعادة ثقتهم باليابان. انخفض الين من 80 إلى 120 مقابل الدولار. وتضاعفت سوق الأسهم التي تعرضت للتجاهل لفترة طويلة.
مع ذلك، الاستهلاك اليوم أقل مما كان عليه في عام 2012، والاقتصاد يعاني ركودا فنيا. ويتعين على مجلس إدارة بنك اليابان خفض توقعات التضخم لهذا العام إلى أقل من 0.5 في المائة والاعتراف بأن هدفه المتعلق بالأسعار بعيد المنال، حتى عام 2017 تقريبا. وبحسب معظم المحللين، حتى هذه التقديرات تعتبر متفائلة.
يواجه كورودا الآن خيارا حاسما: إما مضاعفة سياساته وزيادة التسهيل، أو اتخاذ نهج أقرب إلى التدريج. القبول بأن بنك اليابان يجب ببساطة أن ينتظر ويرجو تحقق تضخم بنسبة 2 في المائة قد يكون بمثابة إقرار بالهزيمة. يقول الناس الذين قابلوا المحافظ أخيرا “إنه لا يزال مصرا على روايته: أن سياسة بنك اليابان ناجحة، والحلقة الحميدة بين الأسعار والأجور تضرب بجذورها في الأرض”.
لكن إذا اختار عدم الاستمرار في التسهيل، رغم هذه الآفاق الاقتصادية الضعيفة، فإنه يخاطر بالإشارة إلى أن الفرار في الوقت المناسب من الانكماش أمر يفوق قدرة بنك اليابان، ما يسبب انهيارا في صدقيته وتراجعا عن أي آثار جيدة يمكن أن تكون قد حققتها سياسته.
يقول ماسازومي واكاتابي، أستاذ الاقتصاد في جامعة واسيدا، الذي تربطه علاقات بـ “أنصار مقاومة الانكماش” الذين كانوا مصدر إلهام لبرنامج آبي الاقتصادي (الآبينوميكس)، “إنني بالتأكيد أشعر نوعا ما بوجود أزمة. أعتقد أن الإجراء الأكثر أمانا سيكون إضافة قليل من التسهيل”.
المعارضة الداخلية
يحجم المسؤولون في بنك اليابان – من بينهم عدة أعضاء في مجلس السياسة المكون من تسعة أعضاء وكثير من الموظفين، بشكل عميق – عن اتخاذ إجراء هذا الأسبوع. ليس فقط أن توقعاتهم تتسم بالتفاؤل – بتجاهل أسعار النفط، يعتقدون أن التضخم المحلي تحول إلى الأفضل – لكن لديهم مخاوف تكتيكية تتعلق بالتوقيت، مع استعداد حكومة آبي لكشف النقاب عن حزمة من الحوافز تصل إلى أربعة تريليونات ين، بينما الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على وشك إعلان أول زيادة في أسعار الفائدة منذ عقد من الزمن.
يقول ريوتارو كونو، كبير الاقتصاديين لدى بنك بي إن بي باريبا في طوكيو “إذا كانت التكلفة مرتفعة والمزايا منخفضة، فإن زيادة التسهيل لن تكون أمرا منطقيا”. وهو من المشككين منذ فترة طويلة في سياسة التسهيل الخاصة ببنك اليابان، معبرا عن مخاوفه وقلقه حيال الديون العامة – التي تعتبر الأعلى في العالم بنسبة تصل إلى 264 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي – واستراتيجية الخروج النهائي للبنك.
يقول المطلعون “إن كورودا يحوز على أغلبية المجلس، مع سيطرة قوية على السياسة النقدية والقدرة على اتخاذ الإجراءات. لكن الجوانب السياسية أيضا مشكوك في أمرها: لا الحكومة ولا الشركات متحمسة لموضوع مزيد من التسهيل، الذي من المرجح أن يضعف الين، ما يرفع أسعار المواد الغذائية المستوردة”.
وعلى ما يبدو آبي فقد اهتمامه بالانكماش، مفضلا أن يدّعي أنه تم حل المشكلة. قال رئيس الوزراء في أيلول (سبتمبر)، واعدا باتباع نهج جديد لم يشر فيه إلى السياسة النقدية “لقد تمكنا فعليا من الوصول إلى مرحلة لم نعد نعاني فيها الانكماش”.
نتيجة لذلك أصبح هو وكورودا، اللذان ينظر إليهما بوصفهما شريكين في توليد الآبينومكس، حليفين بينهما علاقة غير مريحة خلال الأشهر الأخيرة.
يؤكد مستشارو رئيس الوزراء، مثل إيتسورو هوندا، على صفقة متواضعة في المالية العامة تهدف إلى مساعدة الفقراء. في مقابلة مع “فاينانشيال تايمز” أخيرا، وصف سادايوكي ساكاكيبارا، رئيس اتحاد الأعمال الياباني (كيدانرين)، الوضع بأنه “اللحظة الحاسمة” بالنسبة إلى الاقتصاد الياباني، لكنه قبل حجة كارودا حول الدورة الحميدة.
إذا كان هناك سبب واحد لعدم تحقيق الوعد الأولي للآبينومكس، فإنه سيكون القرار الذي اتخذ في ربيع عام 2014 برفع معدل ضريبة الاستهلاك، بحسب النقاد. يقول واكاتابي “لو لم يكن لدينا الارتفاع في ضريبة الاستهلاك، أعتقد أننا كنا قد حققنا هدف التضخم”.
كان تغيير النظام للسياسة النقدية وسياسة المالية العامة عام 2013 واضحا وفي الوقت المناسب. يقول إيزورو كاتو، كبير الاقتصاديين في شركة توتان للأبحاث “استقرت مشكلة اليونان في منطقة اليورو، وكان كورودا محظوظا بقرار الاحتياطي الفيدرالي الخاص بالانسحاب التدريجي”. أدى إجراء كورودا إلى حدوث انخفاض حاد في الين، ورفع معدل التضخم – وأدى إلى خلق شعور مضلل بأن الاقتصاد كان جيدا بما يكفي للتصدي للعجز في ميزانية اليابان.
لكن الارتفاع في ضريبة المبيعات من 5 إلى 8 في المائة كان خطأ قاتلا في السياسة – خطأ دعمه وأيده كورودا – أدى إلى إغراق الاقتصاد في حالة ركود لا يزال عليه أن يتعافى منها، بحسب ما يتهم النقاد. وحاول بنك اليابان استعادة الزخم في الخريف الماضي، مع إطلاق قذيفة كبرى ثانية، حين كثف وتيرة شراء الأصول إلى 80 تريليون ين في السنة، لكن الضرر كان قد حدث بالفعل.
كان الارتفاع في ضريبة المبيعات والين الضعيف يعنيان أن الأسعار ارتفعت بشكل أسرع بكثير من الأجور. استجاب المستهلكون، كما كان متوقعا، عن طريق تخفيض الإنفاق. وما جعل الأمور أسوأ هو أن الارتفاع في مستويات الأسعار أثار تخفيضات تلقائية في المعاشات التقاعدية العامة، ما أدى إلى تفاقم الضرر على الاستهلاك في بلد حيث يوجد فيه سبعة متقاعدين مقابل كل عشرة عاملين.
من المفترض أن اقتصاديات آبي هي بمثابة حافز شامل، لكن ورقة بحثية صدرت أخيرا عن معهد بروكينجز، من تأليف جوشوا هوسمان ويوهانز فيلاند، تفيد بأن “للسياسة النقدية قليلا من الأثر الإيجابي نسبيا (على الاستهلاك) في حين إن سياسة المالية العامة الانكماشية كانت لديها آثار سلبية كبيرة”.
لذلك، كانت نتيجة الآبينومكس هي جلب الاقتصاد إلى وضع يذكرنا بعام 2005/2006، عندما كان الين أيضا يعادل 120 مقابل الدولار، وكانت البطالة أدنى من 4 في المائة، وكان التضخم يتجه صعودا.
اليوم، تصبح سوق العمل أكثر تشديدا بشكل مطرد، مع انخفاض معدل البطالة إلى 3.4 في المائة، وهناك علامات يسيرة على الضغوط التضخمية المحلية. إذا استمر الاقتصاد في مساره الحالي، سينفد منه العمال العاطلون عن العمل في نهاية المطاف. والطلب سيتجاوز العرض، وينبغي أن يتسارع التضخم. لكن كما كان الحال خلال عام 2005/2006، وتيرة التقدم بطيئة للغاية، وتشير الاستبانات إلى قليل من الاعتقاد العام بأن التضخم سيصل يوما ما إلى نسبة 2 في المائة.
أسئلة صعبة
مثل هذا التقدم البطيء يعطي مجالا للأمور بألا تسير على ما يرام. بعد عام 2006، كان مصدر الخلل هو الأزمة المالية. بالنسبة إلى كورودا، هناك خطر له طبيعة خاصة هو تباطؤ الصين، الذي يثقل منذ الآن كاهل الصادرات وعلى استعداد رجال الأعمال اليابانيين للاستثمار.
هذه هي بالضبط صورة النهج التدريجي، لكن إذا كان كورودا وزملاؤه يريدون مزيدا من التحفيز فعليهم أولا الاعتراك مع سبب عدم نجاح تصرفاتهم على النحو الذي كانوا يرجون، وما إذا كانوا مستعدين للتحرك بشكل جذري فعليا.
رغم كل الكلام النشط، تمسك كورودا جيدا باللعبة الرئيسية التي كان رائدها بن برنانكي، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بين عامي 2007 و2012 – التي هي الآن شائعة لدرجة أنها بالكاد تعتبر غير تقليدية – لكنه واجه مشكلة فريدة من نوعها في تطبيقها.
استخدم برنانكي عمليات ضخمة لشراء الأصول من أجل خفض أسعار الفائدة طويلة الأجل وحماية الصدقية لهدف التضخم الخاص الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 في المائة. لكن في اليابان كانت أسعار الفائدة في الأصل منخفضة جدا على نحو لا يمكن معه تخفيضها أكثر من ذلك – وبعد سنوات عديدة من الانكماش، لم يكن لدى بنك اليابان صدقية تذكر أصلا.
كان لعمليات شراء الأصول بعض الأثر المباشر على الين وسوق الأسهم، لكن كورودا اعتمد بشكل كبير على آلية مختلفة: رفع التوقعات العامة المتعلقة بالتضخم المستقبلي. إذا كان الناس يعتقدون أن الأسعار سترتفع، فمن المنطقي الاقتراض والإنفاق الآن، ومن ثم التسديد بعملة منخفضة القيمة.
قال كورودا في خطاب له هذا العام “إذا كان بإمكان البنك رفع توقعات التضخم، فقد تنخفض أسعار الفائدة الحقيقية، محفزة النشاط الاقتصادي من قبل الشركات والأسر”، مجادلا بأن رفع توقعات التضخم لم يكن فقط هدفه هو، بل الآلية التي من خلالها قد تنجح سياسته.
واستشهد كورودا بمخاطر توقعات التضخم في تفسير زيادات العام الماضي في عمليات الشراء إلى 80 تريليون ين. هناك سبب مهم لاتخاذ الإجراء الآن هو أن هناك بوادر على أن تلك التوقعات آخذة في التلاشي مرة أخرى.
لكن هناك نوعين من التحديات الكبيرة التي تتعرض لها الآلية نفسها. أولا، أن الوعد بتضخم نسبته 2 في المائة يرفع فقط التوقعات إذا آمن بها المستثمرون.
يقول كازوماسا إيواتا، رئيس مركز اليابان للبحوث الاقتصادية، وهو نائب محافظ سابق لبنك اليابان “أثار برنامج التسهيل الكمي والنوعي إلى حد ما توقعات التضخم، لكن فقط بنسبة 0.5 في المائة، وليس 2 في المائة”.
في خطاب ألقي أخيرا، وجهت جانيت ييلين، رئيسة الاحتياطي الفيدرالي، ضربة في صميم أسس سياسة كورودا، قائلة “إنها تشك في سياسة تستند بشكل بحت إلى فكرة أن التوقعات المتغيرة يمكن أن تنجح أصلا”.
قالت “ترسو توقعات التضخم طويل المدى في مستوى معين فقط بعد أن ينجح البنك المركزي في الحفاظ على التضخم الفعلي قريبا من بعض المستويات المستهدفة لسنوات عديدة”. ولم يكن كورودا قادرا على تحقيق ذلك.
وحتى لو صدّقت الأسواق بنك اليابان، فقد أثارت بحوث أجريت أخيرا تساؤلات حول كيفية استجابة الاقتصاد لبرنامج الإرشاد المتقدم للبنك المركزي.
إذا اختار كورودا اتخاذ إجراء الآن، فإن خياره الأبسط هو نفسه: يرى مسؤولو بنك اليابان مجالا لشراء السندات بشكل أسرع قليلا، ويمكنه أيضا تسريع عملية شراء الأسهم. مثل هذه الخطوة قد ترضي الأسواق، في الوقت الراهن، لكن المزايا الإضافية ضئيلة على الأرجح.
يقول إيواتا، “إذا اتخذ بنك اليابان إجراءه في نهاية تشرين الأول (أكتوبر)، فسيكون نطاق الإجراء محدودا. وتتضمن الخيارات أن يعيد بنك اليابان صياغة سياساته النقدية إلى حد كبير”. ويفضل إيواتا إجراء باتجاه أسعار الفائدة السلبية – أي تخفيض تكلفة الاقتراض أكثر قليلا من قبل – وهو شيء استبعده ورفضه كورودا رفضا قاطعا.
تحد سياسي
جزء من التحدي الذي يواجهه كورودا هو أنه يصوغ السياسة بدلالة القاعدة النقدية، وهو ما يعني من الناحية العملية حجم الميزانية العمومية في بنك اليابان. التغيرات الأكبر، مثل أسعار الفائدة السلبية، أو تعزيز الإرشاد المتقدم، أو حتى وضع حد أعلى لأسعار الفائدة، تتطلب التعبير عن السياسة بطريقة مختلفة.
وأي من هذه الخيارات يحتاج إلى وقت من أجل تنظيمه، لكنها تتجاوز قواعد اللعب في الاحتياطي الفيدرالي وربما تعزز التوقعات التضخمية لفترة، على الأقل. هناك خيار متطرف فعلا، وهو ما يعرف بـ “إلقاء الأموال من الطائرات المروحية”، الذي يعني في الأساس قرارا من بنك اليابان بطبع الأموال وقرارا من الحكومة بإنفاقها.
لكن المسؤولين في بنك اليابان يستبعدون هذا الخيار تماما، ويعزفون عن مناقشة الفكرة حتى بشكل غير رسمي. يقول كاتو “لن يقبل الشعب الياباني ذلك أبدا”. مياكو سودا، وهو عضو سابق في مجلس السياسة في بنك اليابان، يشعر بالمثل بالارتياع من الفكرة.
لكن إذا كانت هناك صدمة قوية أخرى لليابان – مثل التباطؤ الاقتصادي السريع في الصين – عندها ستُلغى جميع الرهانات. وقد أعلن كورودا أنه سيفعل كل ما يلزم. وإذا أراد أن يتجنب أن تُنسَب إليه صفة “صاحب النهج التدريجي”، فربما يضطر قريبا إلى أن يثبت صحة ما يقول.