فرغ الدُرج المخصص لرواتب العسكريين في وزارة المال من محتوياته، دون إيجاد الصيغة الدستورية لحل هذا الفراغ، الذي أنتجه شلل مؤسسات الدولة. التلويح بعدم تحويل رواتب العسكريين جاء قبل ساعة الصفر المتمثلة بنهاية شهر تشرين الأول المنصرم، وبرغم ذلك، لم يتداعى مجلس الوزراء الى حل هذه الأزمة، وفضّل المعنيون الإنتظار الى اليوم الإثنين، لعلّ معجزة ما تحصل، وتنقذ الوزراء والبلد، بعد ان لامست الأزمات لقمة عيش المؤسسة الأمنية، التي يعتبرها الجميع آخر الحصون.
عدم تحويل الرواتب جاء بعد رفض وزير المال علي حسن خليل تحويلها من خارج الإعتماد المخصص لها، لأن النقل يحتاج الى موافقة مجلس الوزراء، وبسبب شلل هذه المؤسسة، عُلّق النقل والدفع. وأكد خليل مراراً على ان “المشكلة ليست مالية”، فالأموال موجودة بالرغم من النقص في أموال كل الإدارات الرسمية، لكن تحويلها بحاجة الى “جلسة مجلس وزراء”. حَصْر خليل للأزمة بجلسة مجلس الوزراء، لم يستسغه كثير من أعضاء ذاك المجلس، اذ غمز بعض الوزراء الى ان الأزمة سياسية بإمتياز، وهي إستكمال لأزمة النفايات وبقية الأزمات. وألمح وزير العمل سجعان قزي عبر “تلفزيون الجديد”، أمس الأحد، الى ان خليل يمارس تعطيلاً سياسياً، لكن من دون أن يسميه مباشرة. مؤكداً انه “لو كان هناك قرار سياسي، لدَفَع المال”، وحذر قزي من “إحداث شغب وفوضى في البلد، إذا لم تدفع المعاشات فوراً”، معتبراً ان “هناك مؤامرة بعد (أزمة) النفايات… فقد أدخلنا النفايات بالسياسة، والآن ندخل معاشات العسكر”.
إلتزم العسكر الهدوء، وهُم المثقلون بهموم القتال في الجرود وحفظ الأمن في الداخل وفي المطار والمرافىء، كما حماية مجلسي الوزراء والنواب ومنازل السياسيين ومراكز عملهم… وما الى ذلك. فيما الوزراء والنواب يقبضون رواتبهم ومخصصاتهم بكل سهولة، تاركين حماتهم يغرقون في زواريب الآليات الدستورية والقانونية. علماً ان أرباب المجلسين، يجلسون في مناصب غير دستورية وغير شعبية، ويصرفون أموالاً دون موازنة ولا قطع حساب، لكنهم لا يلتفتون للأطر القانونية، إلاّ متأخرين، وفقط إذا كان المعنيون هم من الشعب. غير ان هدوء العسكر لم يدم طويلاً، لأن قائد الجيش جان قهوجي عرض قوّته على الأرض، عبر عدد أفراد القوة التي رافقته خلال إجتماعاته بالمعنيين بهذا الملف. ولاحقاً، أصدرت قيادة الجيش بياناً أكدت فيه “تمسّكها بكرامتهم وحقوقهم المادية (للعسكريين)، سواء من خلال دفع الرواتب والمساعدات الاجتماعية وغيرها في الأوقات المحددة، أو من خلال حفظ هذه الحقوق في مشروع سلسلة الرتب والرواتب المقترحة، فمعنويات العسكريين ولقمة عيش أفراد عائلاتهم، هي من أولويات القيادة، ولن تسمح بالتفريط بها تحت أيّ ظرفٍ من الظروف”.
الإجتماعات واللقاءات توالت لإيجاد مخرج لهذه الأزمة الدستورية – السياسية، فطُرحت الإستدانة من مصرف لبنان أو إصدار رئيس الحكومة تمام سلام قراراً بنقل إعتمادات وصرف الرواتب، على مسؤوليته الشخصية، فضلاً عن جملة من الإقتراحات التي بقيت داخل جدران أماكن الإجتماعات. وسريعاً، تحولت وجهة المعنيين نحو وزارة الدفاع، وما هي إلا ساعات حتى أعلنت وزارة المال عن “تحويل رواتب العسكريين من الجيش والامن العام وبعض الادارات”، وإستكمال تحويل “رواتب قوى الامن وسائر الاجهزة والادارات”. إلا ان وزير الدفاع سمير مقبل، لم يفصح عن ماهية الحل النهائي، مكتفياً بالتأكيد على حل الأزمة، وان الرواتب ستُدفع “قبل نهاية هذا اليوم (الإثنين). لكن ما يتم تداوله، هو ان الحل قام على نقل اعتمادات من وزارة الدفاع، لتُدفع بواسطتها الرواتب.
عمر الأزمة لم يدم طويلاً، لكن تحويل الرواتب لا يعني إنتهاء الأزمة كلياً، لأن العسكريين جزء من موظفي الدولة. والأزمة التي تصيب مكوناً من مكونات الموظفين، فإنما تصيب الجميع، ولذلك، على كل موظفي القطاع العام التضامن مع العسكريين، لأن الوضع لم يعد يُحتمل، على حد تعبير رئيس التيار النقابي المستقل حنا غريب، الذي اعتبر ان السياسيين يبتزون بعضهم عبر العسكريين وموظفي القطاع العام، وهم ما عادوا يسمعون كلمة حراك مدني ولا هيئات ولا أي طرف شعبي. وفي حديث لـ “المدن” رأى غريب ان الأزمة ليست أزمة أموال، بل أزمة حقوق وسلسلة رتب ورواتب مجمدة منذ 20 عاماً. مشيراً الى ان ازمة الدولة تخطت السلسلة والنفايات والكهرباء، وبات المطلوب تغيير السلطة السياسية. والتحدّي أصبح في هذا المحور لأن الفقير هو من يدفع الثمن.
إذا كانت رواتب العسكريين قد إستدعت كل هذا التخبط و”الغيرة” على المسارات الدستورية، فهذا يعني ان الحديث عن رتب ورواتب للعسكرين، بات أمراً مستحيلاً، لأن ما تبقى من حقوق بديهية لموظفي الدولة، أصبح عرضة للعرقلة، في حين ان رواتب السياسيين لا تدخل في بازار النقاش، فهي خارج أزمة المؤسسات العامة. وليس من المستغرب إذن، أن يصيب الشلل كل البلد، بإستثناء رواتب السياسيين، أما أتباعهم من عامة الشعب، فمستمرون بالتنفّس طالما ان الزعماء على قيد الحياة.