في منتصف تشرين الأول الماضي، عقدت منظمة «غافي» (مجموعة العمل المالي من أجل مكافحة غسل الأموال وتمويل الارهاب) اجتماعاتها الدورية، وناقشت ملفات الدول غير المتعاونة في تطبيق شروطها الكاملة في مجال اقرار القوانين وتطبيق الانظمة الرامية الى مكافحة ما تسمّيه «تمويل الإرهاب وتبييض الأموال». كان لبنان مشاركاً في هذه الاجتماعات عبر مجموعة «MENA FATF»، التي يحقّ لها حضور الاجتماعات كعضو مشارك لا يساهم في اتخاذ القرارات.
واطّلع على لائحة الدول غير المتعاونة، التي ضمّت لبنان، وهو قد تبلّغ بذلك سابقا، فالجهات المعنية، في حاكمية مصرف لبنان وفي وزارة المال وفي رئاسة الحكومة وفي رئاسة المجلس النيابي، على علم بتهديد المجموعة بادراج لبنان على اللائحة منذ أكثر من سنة.
بحسب المعايير التي وضعتها «غافي»، يعني إدراج لبنان على هذه اللائحة أنه لم يلتزم شروطها. علما ان مصرف لبنان اعدّ مشاريع قوانين تستوفي هذه الشروط، وتتناول تعديل القانون 318 المتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب، مراقبة وضبط النقد عبر الحدود، تبادل المعلومات الضريبية. هذه المشاريع أقرّتها الحكومة واحالتها إلى المجلس النيابي، إضافة الى معاهدة الامم المتحدة لعام 1999 المتعلقة بتجفيف مصادر تمويل الارهاب. هذه المشاريع لا يزال غالبيتها في اللجان النيابية يناقش ويستقطب تجاذبات سياسية ووجهات نظر مختلفة. يوضح النائب ياسين جابر أن المعترضين على هذه المشاريع يتخوّفون من انعكاساتها على البنية الاجتماعية والمالية لبعض الفئات، إلا أنهم يتفهمون ضرورات إقرارها، وبالتالي فقد أصبح النقاش علمياً وتقنياً فيها والجميع يعلم أنه لا بدّ من اقرارها.
ويشير جابر إلى أن مشروع ضبط نقل الأموال النقدية عبر الحدود لم يكن عليه اعتراضات بل نقاشات في تفاصيل المشروع، وموضوع تبادل الإجراءات الضريبية جرى درسه على نحو معمّق وقد شارك في هذا الأمر عدد كبير من الجهات المعنية سواء جمعية المصارف أو وزارة المال ونقابة المحامين وغيرها، وبسبب ضرورة التوسّع في هذا النقاش، أنشئت لجان فرعية مصغّرة لاستكمال النقاش وتحديد الحاجات المطلوب إقرارها، اذ يجب التعامل مع هذه المشاريع بجديّة.
تشير مصادر مصرفية مطلعة على النقاشات إلى أن التعديلات المطروحة على مشروع تبادل المعلومات الضريبية قد تطيح السريّة المصرفية، وبالتالي لا يزال البحث جارياً عن صيغة تحافظ على السرية المصرفية وتقرّ المشروع في الوقت نفسه.
الجديّة التي تحدّث عنها جابر تنطبق على التعديلات المقترحة على القانون 318، وعلى انضمام لبنان إلى اتفاقية الأمم المتحدة التي تحمل الرقم 1999 المتعلقة بتجفيف مصادر تمويل الإرهاب. هذه الاتفاقية جاهزة في مجلس النواب لكن النقاش يدور حول تعريف مفهوم الارهاب، الذي لا يزال يحول دون إقرارها. بحسب ما يردد المتحمسون لاقرار الاتفاقية، فان لبنان والصومال فقط من بين الدول العربية التي لم تنضم إلى هذه الاتفاقية، ويسترشد هؤلاء بانضمام سوريا إلى الاتفاقية في عام 2004. يومها أضافت وزارة المال السورية عبارة إلى الاتفاقية مفادها: «الإرهاب حسب مفهوم قانون الدولة السورية». السؤال الذي يطرحه المتحمسون: «لماذا لم يتمكن لبنان من إيجاد صيغة مناسبة لإقرار هذه الاتفاقية ومشاريع القوانين الثلاثة؟ طالما أنها مفروضة على لبنان من الأميركيين والأوروبيين، وطالما ان عدم إقرارها قد يؤدي إلى إدراج لبنان على لائحة الدول غير المتعاونة، ما سيؤثّر مباشرة على تعاملاته مع مصارف المراسلة، أي المصارف الأميركية والأوروبية التي تتعامل معها المصارف اللبنانية لإتمام كل العمليات المالية المتعلقة بالعملات الاجنبية وبالعمليات مع الخارج».
ليس خافياً على أحد أن هذه الشروط فرضها العضو الأكثر تأثيراً في منظمة «غافي»، أي الولايات المتحدة، وهي تأتي تحت عنوان فرض تشريعات «كافية ووافية في ما يتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب»، وفق مصدر لبناني مسؤول، «إلا ان المشكلة أن لبنان كان يتذرّع منذ سنوات بعدم انعقاد مجلس النواب، وقد اصبحت هذه الحجّة بالية جداً ومفعولها عكسي لأن أعضاء منظمة غافي قرّروا إدراج لبنان على لائحة الدول غير المتعاونة. عندها اندفع المعنيون في مصرف لبنان ووزارة المال ورئاسة الحكومة نحو البحث عن ذريعة جديدة لكسب المزيد من الوقت، فأبلغوا المنظمة ان لبنان لم يطلع على تقريرها على نحو واف، بما يؤهله لإقرار هذه التشريعات وفقا للشروط الواردة في التقرير، وبالتالي نحتاج إلى وقت من أجل إنهاء الأمر». هذه الذريعة منحت لبنان مهلة جديدة حتى 31/12/2015 لإقرار التشريعات المطلوبة وإقرار الانضمام إلى الاتفاقية.
في مواجهة هذه الضغوط على الصعيد العالمي، برز على هامش الاجتماع السنوي الاخير لصندوق النقد والبنك الدوليين، في ليما ــ بيرو، كلام عن رغبات مصارف المراسلة في التخلّص من الضغوط الدولية وإجراءات الامتثال المفروضة، التي كبدتها خسائر كبيرة. فقد عقدت لقاءات مع مسؤولي مصارف المراسلة الأميركية والأوروبية وشارك فيها عدد من المصرفيين اللبنانيين، وتبيّن لهؤلاء أن هناك إجماعاً من مصارف المراسلة على اختلاف هوياتها بضرورة تخفيف الضغوط الدولية للامتثال التي أدّت إلى تدمير العلاقات مع أكثر من 2500 مصرف حول العالم، وقد أعرب عدد من مصارف المراسلة الأميركية عن رفضهم لهذه الإجراءات التي «فيها ضرر كبير على المصارف الأميركية وعلى انتشارها في العالم». في رأي المصرفيين أن هذا الأمر سينعكس إيجاباً في لبنان حيث الضغوط تزايدت في السنوات الأخيرة، لكنّ البحث لا يزال دائراً عن التوازن بين المعايير الدولية في ظل ارتفاع وتيرة الارهاب واستعماله المؤسسات المالية والمصرفية، والتخفيف من الضغوط على المصارف المتعاملة.
في هذا الإطار جاء اللقاء الحواري في أبو ظبي بعنوان «التعامل مع تداعيات اجراءات البنوك المراسلة العالمية في تقييم المخاطر»، لكن الاعتقاد الشائع بين المصارف العربية هو ان مصارف المراسلة الأميركية والأوروبية يمكنها الضغط على وزارة الخزانة الأميركية وعلى الاتحاد الأوروبي للتخفيف من إجراءات الامتثال. لبنان ليس وحده في هذه المشكلة بل كل الدول العربية أيضاً. حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أوعز إلى المصارف في اللقاء الأخير بينهما، الآتي: «بينما لا نستطيع تغيير مسار السياسات والتدابير العالمية يبقى التأقلم معها بحكمة، كما فعلت المصارف دوماً، هو المطلوب».