Site icon IMLebanon

صناعة الطيران في الصين: تحدٍّ ورهان

Chinese-Aircraft-Comac-C919
عامر محسن

قدّمت الصين الى الأسواق والجمهور، هذا الأسبوع، أوّل طائرة مدنية كبيرة الحجم تنتجها صناعتها الوطنية. وقد جرى ذلك في احتفالٍ ضخم، يُعقد اعتيادياً لدى تجميع النسخة الأولى من طائرة جديدة، رافقته حملة دعائية تمتدح «الانجاز الوطني» وعبور الصين عتبةً مهمة بمقاييس التقدّم التكنولوجي.

الطّائرة اسمها C-919، وهي من فئة الطائرات التي تحمل بين 150 و200 راكب، بمواصفات تشبه الايرباص 320 وبوينغ 737 وتنافسها؛ أي أن الطائرة الصينية تشكّل أول تحدٍّ مباشر للثنائي الغربي المهيمن (بوينغ وايرباص) منذ عقود.
من المفهوم أن تطمح الصين (وغيرها) الى كسر احتكار الشركتين الهائلتين لسوق الطيران المربح والآخذ في التوسّع. في الصين وحدها، تتوقّع بوينغ، سيتمّ شراء طائرات مدنية بقيمة تقارب الألف مليار دولار في السنوات العشرين المقبلة، والحكومة في بيجينغ لا تريد أن تذهب كل هذه العائدات الى الأجانب. في الستينيات والسبعينيات، كانت هناك شركات غربية عديدة تصمم وتصنع طائرات مدنية، من «فوكر» الهولندية الى «ماكدونيل دوغلاس» الأميركية و»هاوكر سيدلي» في بريطانيا؛ اضافة الى الاتحاد السوفياتي، الذي كان يحاول انتاج طائرات مدنية من كل الفئات. في العقود الأخيرة خرجت كلّ هذه الشركات من السوق أو اندمجت وانصهرت؛ انهار الاتحاد السوفياتي ولم يبقَ الا العملاق الأوروبي (الذي نتج أصلاً عن دمج عدة شركات) وبوينغ، ليحتكرا انتاج الطائرات الكبيرة في العالم («امبراير» البرازيلية و»بومبارديه» الكندية تعملان في مجال الطائرات الصغيرة ـــــ أكثرها بدفعٍ مروحيّ وللرحلات القصيرة ــــ وهي تحاول مؤخراً أن ترتقي الى الفئات الأكبر من الطائرات النفاثة).

من هنا، قرّرت الصين، عام 2008، أن تنشىء شركةً مملوكة للدولة، اسمها «كوماك»، وأن تمدّها بالتمويل والتسهيلات اللازمة حتى تصير «بوينغ صينية». في العادة، تبدأ الشركات الطامحة الى دخول هذه الصناعة (المكلفة والمعقدة، بل لعلها الأكثر كلفةً وتعقيداً) ببناء طائرات صغيرةٍ ــــ على غرار «سوخوي» و»ميتسوبيتشي»، التي أطلقت مؤخراً طائرات من فئة المئة راكب ــــ وتنتقل، بعد تثبيت رجليها في هذا القطاع وبناء سمعةٍ في سوق الطيران، الى مشاريع أكبر. الا أن «كوماك»، التي لم تصنع طائرة من قبل، وليس للصين عموماً خبرةً حقيقية في صناعة الطيران المدني، قد قرّرت أن تعمل، في وقتٍ واحدٍ تقريباً، على ثلاثة مشاريع من مختلف الفئات: طائرة صغيرة للنقل المحلي طارت للمرة الأولى عام 2008 وقد اقتربت من دخول الانتاج، وC-919 التي كُشف عن نسختها الأولى يوم الاثنين، وطائرة أكبر، ستنتج بالتعاون مع روسيا، تنافس البوينغ 787 وايرباص 350 ــــ الجديدة والضخمة والعابرة للقارات.

أهمية الـ C-919 تكمن في انها أول طائرة تجارية تصمّمها الصين بالفعل. الـ ARJ-21 قصيرة المدى تُصنع في الصين، ولكن هيكلها هو نسخٌ لطائرة MD-80 الأميركية القديمة، محركها تصنعه «جنرال الكتريك»، وأجنحتها من تصميم مكتب «انتونوف» في اوكرانيا. الطائرة الجديدة، التي لن يبدأ انتاجها ولن نراها في الأجواء قبل أربع سنوات على الأقل، هي تصميمٌ خاص لشركة «كوماك» وليست استنساخاً لأي طائرة موجودة، وهي بهذا المعنى تعدّ ــــ بحقّ ــــ إنجازاً للصين.
هذا لا يعني ابداً أن الطائرة «صينية الصنع»، فالمحرّك من صنع «جنرال الكتريك» و»سنكما» الفرنسية، ومعدات الملاحة والالكترونيات تورّدها «هونيويل» الأميركية، الخ. الّا أنّه لا توجد شركة واحدة (أو دولة) تقدر على صناعة آلاف المكوّنات التي تدخل في بناء الطائرة المدنية الحديثة، وامتلاك الخبرة في كل هذه المجالات التكنولوجية: الجهد الأساسي لـ «الشركة الصانعة» هو في تقديم التصميم، والتنسيق بين الموردين المختلفين الذين يصنعون أكثر قطع الطائرة (في حالة البوينغ-787، أكثر من 45 مورّداً رئيسياً ومئة مورّدٍ لأجزاء أقل أهمية، موزعين على أرجاء العالم)، ثم تجميعها في شكلها النهائي وضمان ادائها وصيانتها.

ان كان تصميم الطائرة الحربية يشبه بناء سيارة سباق، هدفها كسر الأرقام القياسية واعطاء أكبر اداء ممكن بلا حساب للكلفة، فإن الطائرة المدنية أشبه بالسيارة الاقتصادية، حيث المعيار هو التوفير والفعالية ومصروف الوقود بالكيلومتر. العامل الرئيسي الذي يوجّه عملية التصميم في الطائرة المدنية، من المواد المستخدمة في البناء الى المحركات وشكل الأجنحة، هو في جعلها توفّر الوقود وتخفض كلفة الراكب بنقاط مئوية قليلة عن سابقاتها (لا توجد «ابداعات» اليوم في السرعة أو الشكل أو غير ذلك). وحين تنفق شركات الطيران مليارات الدولارات لتحديث اساطيلها، فهي تدفع حصراً مقابل هذا الوفر، الذي يعطيها أفضلية تنافسية في السوق.

لهذه الأسباب كلها، ولأن الهوامش دقيقة والمعايير علمية، من الصعب أن تنجح طائرة مدنية اليوم إن لم تكن قادرةً على منافسة منتج «بوينغ» و»ايرباص»، وبكلفةٍ موازية أو أقلّ. من الصعب هنا أن تنقذ «الاعتبارات الوطنية» طائرة فاشلة: حين انهار الاتحاد السوفياتي، الشركات الروسية نفسها رفضت شراء الـ «توبوليف»، لأن محركاتها لم تكن بفعالية الطائرات الغربية. اضافةً الى تحدّي التنافسية، على «كوماك» أن تثبت قدرتها على بناء نظام انتاجٍ صلب، يقدر على بناء مئات الطائرات سنوياً ولأمدٍ بعيد بكلفةٍ اقتصادية. الشركة الصانعة تقول إنها قد أمّنت، منذ الآن، ما يقرب من 500 طلب على الطائرة الجديدة، أكثرها من شركات صينية، واذا ما أثبتت قدرتها على المنافسة، فإن الصين ــــ بسوقها المحلي الهائل ــــ قد تغيّر شروط اللعبة في آخر ميدانٍ صناعيّ كبير لا يزال حكراً على الغرب.