مكتب البريد في قرية تويون يعتبر كتلة بيروقراطية حصينة في أحسن حالاتها. مدرجات مزارع الشاي وفاكهة الكاكي ترتفع عبر غابات الأرز الكثيفة. والأمهات اللواتي يرتدين الأثواب الطويلة الضيقة يحصدن الكراث على امتداد الجبل. ومُزارع توت أزرق يقف بعربته ويدخل إلى المكتب لشراء طوابع بريدية.
مع ذلك، ما يخيم على هذه الصورة الريفية هو معركة أيديولوجية لم تخرج اليابان منها تماما سوى يوم الأربعاء الماضي. بعد أن قرع جرس بورصة طوكيو 15 مرة، إيذانا بدخول مصلحة البريد الياباني ومصرف البريد الياباني وشركة تأمين البريد الياباني إلى السوق في أكبر اكتتاب عام أولي هذا العام، ما يعني تحول البلاد، والمؤسسة الفريدة من نوعها، إلى الأبد.
كثيرون سعداء بهذا، لكن عددا كبيرا من الآخرين يشعرون بالرعب. بالنسبة إلى أنصار الاكتتاب العام الأولي للبريد الياباني بمبلغ 11.5 مليار دولار – الأول، ما يرجح أن يكون شرائح عديدة من المجموعة اللوجستية والمالية – تعتبر هذه الخطوة انتصارا متأخرا لقوى السوق على المحسوبية والهدر. لكن النقاد يعتقدون أنها استسلام لكل شيء لائق في اليابان ونذير بتقلص الخدمات بشكل كبير.
بالنسبة إلى رئيس الوزراء، شينزو آبي، الذي يواجه تساؤلات حول مدى فاعلية خطط الإنعاش الاقتصادي الخاصة ببرنامجه الاقتصادي، يمكن أن يكون هذا الاكتتاب عملا رائدا غير مريح إذا لم يستتبعه جيل جديد من المساهمين. فقد تم تخصيص نحو 75 في المائة من الأسهم للمستثمرين اليابانيين الأفراد، الذين لديهم الآن فرصة شراء جزء من العلامة التجارية الأكثر موثوقية في اليابان، مع عائد، يزيد قليلا على 3 في المائة ـ أفضل بكثير من إيداع المال في مصرف البريد الياباني.
حكاية مدير البريد
لا يعتبر أي من هذه المسائل بالأمر المهم بالنسبة إلى يوشيكازو يودا، مدير عام البريد في تويون، في محافظة إيتشي، التي تبعد 290 كيلومترا عن بورصة طوكيو، الذي يجب أن يواصل تسليم البريد.
يقول يودا، وهو جالس أمام صندوق بريد تذكاري مصغر “ما نفعله سيكون الخدمة الشاملة نفسها كما هي دائما. لكن من الصحيح بالنسبة إلى العملاء، أن البريد أصبح منذ تخصيصه (في عام 2007 عندما بدأت العملية بشكل جدي) مصدر ألم حين تسير في داخله”.
نقاد التخصيص الأقل تحفظا في التعبير عن آرائهم يميلون إلى رؤية كارثة كبيرة. يقول شيزوكا كامي، وزير الخدمات المالية السابق – الذي ترك عمله قبل عقد من الزمن بسبب خطط التخصيص الخاصة بحزبه – “إن من المؤكد تماما إغلاق المكاتب البريدية في ريف اليابان وجزرها بسبب التخصيص، والخدمات الحيوية لشعب اليابان الكبير في السن ستزول”.
هذه المخاوف ليست بالأمر الغريب في اليابان، لكن في بلد لديه المجتمع الأسرع شيخوخة في العالم، تلوح هذه المخاوف مع رهبة خاصة.
الموجات الارتدادية الناشئة عن عملية الاكتتاب هذه يمكن أن تصل إلى أنحاء العالم المختلفة. يقول محللون “إن الاكتتاب العام الأولي الثلاثي ـ إدراج شركة البريد الياباني الأم إلى جانب فرعيها المتعلقين بالأعمال المصرفية والتأمين ـ ينبغي ألا يقلل من شأنها”. إحدى أكبر شركات الأعمال التجارية في العالم من حيث الأصول يمكن أن تتعرض للصدمة الآن جراء التنافس مع منافسيها من القطاع الخاص بعد عقود من حماية الدولة لها.
كحد أدنى، مبيعات الأسهم – التي بلغ معدل الاكتتاب فيها أكثر من خمس مرات وفقا للمصرفيين – يمكن أن تخلق جيلا جديدا من مستثمري الأسهم اليابانيين الحريصين على السعي في السوق المحلية، وربما العالم الأوسع، بحثا عن المخاطر. وتحضيرا لعملية الاكتتاب، قالت مصادر في شركة نومورا “إن اليابانيين العاديين فتحوا حسابات وساطة مالية بمعدل أكثر مرتين عما فعلوا في هذا الوقت من العام الماضي”.
ووفقا لمصممي الصفقة الذين يقولون إنهم درسوا عن كثب تاريخ إدراج البريد الملكي في بريطانيا وشركة البريد الألماني، إن المصرف بمجرد أن يتم بيعه بالكامل خلال السنوات المقبلة، سيكون حرا للدخول في خطوط أعمال تجارية جديدة. ويعمل المصرف حاليا على توظيف مسؤولين تنفيذيين من “جولدمان ساكس” ومصارف أخرى، ولديه إدارة تعتزم اتخاذ مزيد من المخاطر الاستثمارية بنسبة أكبر من ودائع المصرف، وأن تصبح مستثمرا عالميا كبيرا. في الوقت نفسه، قد تحاول الخدمات البريدية القديمة، المدعومة بعملية شراء تبلغ 6.5 مليار دولار من مجموعة تول الأسترالية تمت في وقت سابق من هذا العام، التحول إلى إمبراطورية لوجستية عالمية.
وعلى مر السنين، أدى الحجم الهائل لمكتب البريد والنفوذ الذي كان يتمتع به، إلى خلق مصالح مكتسبة يمكن أن يثبت أنها مقاومة بشكل كبير لقوى السوق. فالمؤسسة البالغة من العمر 144 عاما هي بالتأكيد مهمة للحياة اليابانية. إنها العلامة التجارية الأكثر موثوقية في البلاد، والمصرف الأكبر فيها، والضامن الأكبر لبوالص التأمين على الحياة. ومسألة تخصيصها كانت محور تركيز واحدة من أكبر المعارك السياسية المنفردة خلال السنوات الـ 20 الماضية.
مكتب البريد الذي يعمل فيه يودا واحد من 24 ألف مكتب منتشرة في اليابان. هذا الرقم من المنافذ أكبر من شبكات الفروع لجميع المصارف الوطنية في اليابان مجتمعة، وأكبر بنسبة 40 في المائة من أكبر سلسلة متاجر موجودة في البلاد. ويبلغ عدد موظفيها الدائمين 240 ألفا، وسيرتفع الرقم إلى 400 ألف عندما يتم شمول الموظفين غير المتفرغين. وحين يتجول يودا في منطقته، فإنه يستخدم واحدة من 86561 دراجة نارية، أو واحدة من 29061 سيارة مملوكة لمكتب البريد.
العملاء الذين يستخدمون مكاتب البريد – في حالة تويون بمعدل نحو 30 مراجعا يوميا – يفعلون ذلك بسبب المجموعة المتنوعة من الخدمات البريدية التي تراوح بين إرسال صناديق الخضراوات إلى بطاقات التهاني التي يرسلها الأبناء الذين انتقلوا إلى المدينة، التي بلغت 1.8 مليار بطاقة عبرت البلاد بمناسبة العام الجديد في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. كذلك يأتون إلى المصرف، الذي توجد لديهم فيه إيداعات جماعية تصل إلى تريليوني دولار مسجلة في حسابات مكتب البريد منخفضة العائد، ويأتون أيضا بوصفهم حاملين لبوالص التأمين على الحياة التي يقدمها البريد الياباني، البالغ عددها 34 مليون بوليصة.
لكن، في الوقت الذي تكون فيه الأرقام مهمة، حتى أكبر معجبيها يتساءلون ما إذا كان بإمكان عمليات الخدمات البريدية البقاء في شكلها الحالي، فيما لو تم تجريدها من الإعانات التي تتلقاها من فروعها المصرفية والتأمينية.
هذا هو السبب في أن تخصيص خدمات مكاتب البريد لن تكون ناجعة أبدا في عيون الحرس القديم. تجب حماية الأبوية من “النذالة المتغطرسة لوول ستريت”، بحسب كوبو إناميورا، وهو عضو سابق في مجلس إدارة البريد الياباني.
تقول مزارعة سُئلت عن دور يودا في حياتها “لكن كيف يمكن لشخص العيش من دون مكتب البريد؟ إن الأمر وكأن لديك أخا كبيرا يسكن بجانبك”.
إن مصطلح “الأخ الكبير” غير مقصود، لكنه قوي. بغض النظر عن أهميته الاقتصادية والاجتماعية، يبقى البريد الياباني عملاقا سياسيا يلوح في الأفق. كان آلاف من مسؤولي البريد في الريف الذين يعرفون كل شخص باسمه، مصدرا هائلا للنفوذ، وكانوا يحبون هذه الحقيقة. قليل من الدول في أي مكان تمتلك أصولا ذات أطراف تلتف بإحكام حول ديمقراطية البلاد. ولهذا السبب على وجه التحديد شعر الإصلاحيون بأنهم مضطرون لإلى اتخاذ إجراءات.
مقامرات كويزومي
كانت القوة الدافعة وراء التخصيص متمثلة في جونيتشيرو كويزومي، رئيس الوزراء الذي أصبح ملتزما بعزم وطيد بالمشروع في عام 2003 وكان مضطرا لعقد انتخابات عامة في عام 2005 كاستفتاء فعلي بشأن هذا الموضوع. وقد فاز، لكن الضرر السياسي بالنسبة إليه، وإلى حزبه، كان كبيرا. وتتباين الآراء حول سبب رهان كويزومي الكبير على قضية واحدة، لكن الحملة كانت مشابهة لحملة شاملة لسحق نظام الرعاية القديم الذي تعمل مكاتب البريد على تمكينه، الذي يبدو بالنسبة إلى الإصلاحيين، أنه يعرقل التقدم الوطني.
في انتخابات عام 2005 أصبحت الانشقاقات في الحزب الديمقراطي الليبرالي – الذي سيطر على السلطة بشكل غير منقطع قرابة 50 عاما – لا يمكن السيطرة عليها.
كامي كان من بين أولئك الذين انشقوا عن الحزب الديمقراطي الليبرالي لمحاربة مجموعة من مرشحي الانتخابات المشاهير الذين ترأسهم كويزومي. واصل الحزب كفاحه حتى عام 2009، لكن بسبب إضعافه إلى حد كبير جراء فوضى التخصيص، فقد السلطة لمصلحة الحزب الديمقراطي الياباني الذي عمل على تمييع خطط التخصيص. وبحلول عام 2010 تم تعليق المشروع بأكمله.
وعلى الرغم من أن آبي كان عاملا مساعدا في دفع خطط التخصيص الأصلية، بحسب ما يقول محللون سياسيون، إلا أن الاكتتاب العام الأولي لم يكن ليحدث الآن من دونه.
جيسبر كول، المختص الاستراتيجي لليابان منذ فترة طويلة والرئيس التنفيذي لشركة ويزدوم تري الاستثمارية في طوكيو، يقول “أمر مذهل هذه المقاومة القليلة التي واجهها آبي في هذا الموضوع من داخل حزبه”.
ويضيف “صمم آبي قبضة حديدية محكمة وسواء كنا نحبها أم لا. يعرف هو وفريقه كل ما يتعلق بالسلطة. كويزومي كان يمتلك الصوت الشعبي، لكن شيوخ الحزب الديمقراطي الليبرالي طعنوه في الظهر. وعاد آبي بعد مضي عشر سنوات لينجز هذا من دون معارضة. إذا كنت تبحث عن إشارة إلى أن الحرس الياباني القديم يحتضر وأن الطريقة المستخدمة للعمل في المناطق النائية لم تعد موجودة الآن، فهذه هي”.
يبقى هناك السؤال حول شكل أكبر شركة في اليابان بعد إجراء الاكتتاب العام الأولي. بالنسبة إلى الشركات المنافسة، مثل شركة خدمات التوصيل “ياماتو”، الموضوع بأكمله يعتبر مخيفا. تم تخصيص أربعة مليارات دولار تقريبا من عملية الاكتتاب لأعمال إعادة البناء والإعمار في إقليم توهوكو المنكوب بالزلازل، لكن بقية المال لم يتم تخصيصها بشكل رسمي.
وتخشى شركة ياماتو وغيرها من أن اندلاع حرب أسعار حول الطرود بات وشيكا. ولم يوضح أي طرف حتى الآن ما إذا كانت شركة البريد الياباني المدرجة ستخسر امتيازات الطرق الفريدة من نوعها، التي تعني أن مركباتها يمكنها التوقف في أي مكان وتجاهل كون الطرق ذات اتجاه واحد.
يقول يوكو كاواموتو، من جامعة واسيدا، إن الرأي المتعلق بتخصيص البريد يكمن في كيفية تفسير حياة يودا وغيره من مسؤولي البريد. في السبعينيات من القرن التاسع عشر، عندما كانت اليابان في خضم التحديث، قررت الحكومة أنها تحتاج إلى بناء شبكة بريد وطنية بشكل مستعجل. وأثناء تعجلها، تحولت إلى الأشخاص الأكثر ثراء والأكثر نفوذا في البلدات والقرى وجعلت منهم مسؤولين عن البريد.
ويضيف “بعد مرور قرن على ذلك، لا يزال لدينا أساسا بقايا من ذلك النظام الإقطاعي في مكاتب البريد وكانت تلك هي السلطة التي كان يحاول كويزومي اختراقها”. وما لم تتخل الحكومة عن حصتها تماما، وهو ما لم تؤكده حتى الآن، فلن يحدث الاختراق.
بالنسبة إلى هايزو تاكيناكا، المصمم الرئيسي لعملية التخصيص في عهد كويزومي، مصير الوفورات التي تم إيداعها في مكاتب البريد، يدعم الحجج المؤيدة لتخصيصه.
ويقول “لإصلاح اليابان، عرفنا أن ما يمكن فعله من قبل القطاع الخاص ينبغي أن يتم فعله من قبل القطاع الخاص. لا تستطيع المنظمة الحكومية المجازفة بكل تلك الموجودات من الوفورات، وأيضا أنموذج الأعمال التجاري لمكاتب البريد هش وضعيف بسبب الاتصال عبر الإنترنت وهبوط الإيرادات. إنهم بحاجة إلى تطوير مجالات النمو ولا يمكنهم إلى حد ما تحقيق ذلك كمنظمة حكومية”.
لا ينكر المحرضون الفكريون على التخصيص، ومن بينهم نايوكي يوشينو، الأستاذ في جامعة كيو الذي ترأس الفريق الحكومي حول الإصلاحات البريدية في عام 2000، بأن حياة يودا قد تتغير وقد تختفي المكاتب البريدية على الرغم من أن الخدمات نفسها يضمنها القانون.
لكن يودا يبقى غير مقتنع بسبب التدابير البديلة التي قد تحل مكانه هو وأمثاله. يقول، مشيرا إلى القرية والجبال وعملائه “لو أن مكاتب البريد لم تكن موجودة، حينها سيكون المزارعون والشيوخ وكل شخص آخر في ورطة حقيقية”.