حين تجلس في قطار متأخر عن موعد انطلاقه دون أن تعرف السبب، يزداد إحساسك بالإحباط. لكن هناك أيضا مرحلة حين تصل إليها، المعلومات فوق الحد تؤدي إلى نفاد صبرك.
بالنسبة للمستثمرين الذين ينتظرون تحركا في سياسة البنوك المركزية، فإن حاملي عصا المايسترو المسؤولين عن أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا عملوا فقط على زيادة مشاعر الحيرة بشأن وجهة الرحلة المقبلة.
مثلا، في أيلول (سبتمبر)، حين قررت جانيت ييلين، رئيسة الاحتياطي الفيدرالي، تأجيل قرار رفع أسعار الفائدة، بررت ذلك بمشاعر اللبس حول الاقتصاد العالمي. بعد شهر من ذلك صدر بيان عن البنك أهمل الإشارة إلى المخاوف من البيئة الخارجية، ومن الممكن في النهاية أن يقرر رفع أسعار الفائدة هذا العام.
من جانبه أعطى ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، إشارات إلى استعداده لاتخاذ إجراء، مع إمكانية اتخاذ تدابير لتحفيز الاقتصاد في كانون الأول (ديسمبر). أسبابه لذلك تشتمل على “مخاوف بشأن آفاق النمو في الأسواق الناشئة وغيرها من العوامل الخارجية”.
ثم هناك مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، الذي فاجأ الأسواق الأسبوع الماضي بقوله إن مشاعر القلق من البيئة الخارجية تطغى على عقول صناع السياسة في البنك، وأعطى إشارة إلى أن أسعار الفائدة في بريطانيا ربما لن ترتفع في 2016 في نهاية المطاف.
يقول جيم ليفيس، رئيس قسم الدخل الثابت في “إم آند جي للاستثمار”: “في كل شهر يأتينا انقلاب في السياسة. إنهم يبالغون في التواصل بشكل هائل مع السوق في عالم تسوده مشاعر اللبس”. ويحسن بمعظم زملائه من المحللين، كما يقول، أن يتوقفوا تماما عن الاستماع إلى المؤتمرات الصحافية التي تعقدها البنوك المركزية.
أوليفر هنري، المحلل الاستراتيجي للاقتصاد الكلي في دويتشه بانك، تخلى عقب المؤتمر الصحافي الذي عقده كارني يوم الخميس، عن توصيته المستمرة منذ 14 شهرا التي يتوقع فيها ارتفاع الاسترليني. التوقعات الآن تذهب إلى تراجع الجنيه أمام الدولار.
ويقول: “انضم بنك إنجلترا إلى البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي السويدي في وضع قدر أكبر كثيرا من التركيز على البيئة الخارجية الضعيفة للغاية. إذا أردت شيئا يلخص الموضوع كله، فهو العملات. بنك إنجلترا يسير إلى جانب البنك المركزي الأوروبي على نحو يفوق كثيرا موقفه بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي من حيث القلق حول قوة العملة”.
آخرون يرون أن هناك منطقا معقولا في تباعد التصريحات بين واشنطن ولندن. مارفن بارث، رئيس أبحاث العملات الأوروبية في باركليز، يرى أن الكثير من هذا يعد علامة على الفرق بين كون الولايات المتحدة اقتصادا كبيرا ومغلقا نسبيا، في حين أن بريطانيا الأصغر حجما معرضة أكثر من الولايات المتحدة للنشاط العالمي.
ويقول إن مخاوف الاحتياطي الفيدرالي من أثر الثروة، الناشئ عن عدوى الأسواق المالية، على النمو في الولايات المتحدة تراجعت جزئيا مع استقرار الأسواق، في حين أن بنك إنجلترا “عليه أن يأخذ على محمل الجد بصورة أكبر” ما يظهر من علامات قوية على التباطؤ في الأسواق الناشئة.
مارك تشاندلر، المحلل الاستراتيجي لدى براون براذرز هاريمان، يقول إن صعوبة وصول الاحتياطي الفيدرالي إلى النقطة التي يستطيع عندها رفع أسعار الفائدة تعني أنه ليس هناك ما يثير الاستغراب على الإطلاق في أن بنك إنجلترا ينبغي أن يدرس التطورات قبل أن يفكر في رفع أسعار الفائدة.
ويضيف: “فكرة رفع الأسعار هذا الشهر، كما ظنت بعض المصارف البريطانية في وقت مبكر من هذا العام، لم تكن قط مرجحة إلى حد كبير. كان الاحتياطي الفيدرالي يعد الأسواق لرفع الأسعار في حزيران (يونيو)”.
وبحسب تشاندلر، المؤمن منذ فترة طويلة بارتفاع الدولار، الطريقة المناسبة للتعامل مع البنوك المركزية تظل على النحو الذي كانت عليه لفترة من الزمن، وهي الاستفادة من التباعد في السياسة. “هذا التباعد هو المحرك الرئيسي، وسيظل كذلك لعدة أرباع مقبلة”.
ربما يكون هذا صحيحا، لكن ديدييه سان جورج، المحلل الاستراتيجي لدى شركة كارمينياك لإدارة الأصول، يلاحظ أن إحدى الصعوبات بالنسبة للأسواق هي إلى أي هناك ما يكفي من الوقت لاحتساب قرارات البنوك المركزية المحتملة. ويقترح شراء السندات الحكومية ذات الآجال الطويلة لتكون في مقابل العوائد غير المتناظرة.
ويقول: “إما أن البنوك المركزية، بما فيها الاحتياطي الفيدرالي، تقرر أن الوقت لا يزال مبكرا إلى حد ما وترسل إشارة مفادها أن الاقتصاد ليس مستعدا لاستيعاب قرار برفع أسعار الفائدة”. وفي هذه الحالة ستتراجع أسعار الفائدة السوقية، ما يعزز قيمة السندات طويلة الأجل، الحساسة للتغيرات التي من هذا القبيل. “وإما، إذا قررت أن تغامر، تعكس الأسواق قرارا أكثر تشددا برفع أسعار الفائدة في الأجل القصير، والأسعار في الأجل الطويل لا تتحرك كثيرا إلى أعلى، أو تهبط إذا تصور المستثمرون أن ييلين سوف تغامر بالدورة الاقتصادية”
وفي حين أن صناع السياسة النقدية يتم تشبيههم بالطيور ـ يوصف الذين يريدون رفع أسعار الفائدة بالصقور، والذين لا يقلقون كثيرا بشأن التضخم يوصفون بالحمائم ـ هناك الآن حديث عن “رفع حمائمي لأسعار الفائدة”. ويتساءل ستيفن إنجلاندر، المحلل الاستراتيجي للعملات لدى سيتي: “هل تستطيع ييلين رفع أسعار الفائدة بشكل حمائمي في كانون الأول (ديسمبر)؟ السؤال قصير الأجل هو ما إذا كانت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة تستطيع العثور على كلمات للإشارة إلى أنه لا يوجد جدول زمني من أجل زيادة أخرى لاحقة في أسعار الفائدة”.
المعضلة التي يواجهها الاحتياطي الفيدرالي بموجب هذا التحليل هي كيف سيوصل إلى الأسواق الحاجة إلى رفع الأسعار وسط التضخم المنخفض والنمو المنخفض.
ويتخذ ليفيس موقفا مختلفا، فهو يقترح إضافة السندات المرتبطة بالتضخم إلى المحافظ الاستثمارية: “نحن على الأرجح في عالم حيث التضخم يصل إلى نقطة متدنية في مطلع 2016. في العادة نحن نشتري التأمين حين يكون التأمين رخيصا بصورة غير عادية”.
جزء من السبب وراء ذلك هو الدور الذي لعبه تراجع أسعار النفط في كبح التضخم هذا العام. ويقول: “إذا كنت ترى أن سعر النفط سوف يتراجع بمقدار النصف من 50 إلى 25 دولارا للبرميل، ثم يتراجع بعد ذلك بسنة إلى 12.50 دولار، فهذا هو السبب في أنك تريد أن يبقى التضخم عند المستويات الموجودة لدينا الآن”.
هذه هي وجهة النظر التي ترى أنه حتى مع أننا لا نعرف بالضبط متى سيتحرك القطار، إلا أن عجلاته ستبدأ بالدوران بعد فترة قريبة بما فيه الكفاية.