بعد حوالي السنة على إزالتها بحجة الإعتداء على الأملاك العامة، عادت العشرات من المقاهي الشعبية لتملأ شاطىء الميناء في طرابلس. وعودة المقاهي من شأنها أن تعيد إلى الواجهة الجدل بين مؤيدي الحفاظ على ما تبقى من أملاك بحرية في الشمال في عهدة الدولة، وبين مؤيدي وجود هذه المقاهي التي تؤمن خدمات منخفضة الثمن لأبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة، وتؤمن فرص عمل ودخل للعديد من العائلات.
وتتنوع الأنشطة التجارية على طول “كورنيش” الميناء، من “بسطات” الذرة والبليلة وغزل البنات إلى تأجير الدراجات الهوائية للأطفال، وتقديم النراجيل… الى ما هنالك من أنشطة باتت تشكل إقتصاداً رديفاً لذلك الذي تمارسه المؤسسات الإقتصادية المرخصة.
وقد إستغل كثيرون حالة الفراغ في الإدارة المحلية بسبب استقالة بلدية الميناء، إذ “نشر” بعض المواطنين بسطاتهم ومقاهيهم في كل مكان، ويحاول كثيرون التهرب من الإجابة عن السؤال “هل لديكم رخصة لإقامة مقهى على الأملاك العامة البحرية؟”. ولكن حسب أحد العاملين في هذه المقاهي فإن “توزيع الأماكن ونطاق العمل على الشاطىء يتم بالتراضي بين الشباب”، وإقامة هذه المقاهي سهل جداً، إذ “نعتمد على سعف النخيل المرمية من أجل الحماية من المطر، ونحتاج لبعض الكراسي والطاولات والنراجيل لإقامتها”.
ويؤمن كل مقهى من المقاهي المعيشة لعائلات عديدة، لبنانية وغير لبنانية، فمقهى “طلال” يعمل فيه ستة أفراد بالإضافة إلى المالك (طلال) وشريكه، وحسب أحد العمال فإن “الربح ليس كبيراً وهو يتفاوت حسب الأيام، ففي بعض الأيام بكون الإقبال خفيفا ويتضاعف في نهاية الأسبوع، إبتداء من مساء الخميس”.
والمقاهي البحرية المتنفس الأخير لمحدودي الدخل في الشمال، من هنا يتساءل أحمد، أحد مرتادي المقاهي: “إذا أزيلت هذه المقاهي أين سيذهب الفقراء ليتفسحوا؟”، ولكنه في المقابل ينبه إلى مبادرة بعض أصحاب المقاهي والبسطات لإستغلال الإقبال المتزايد من الناس عليها لزيادة أرباحهم، قائلاً “الأسعار بدأت ترتفع. كانت النرجيلة بـ 3000 ليرة تقريباً وفوجئنا مؤخراً بأنها باتت بـ 7000 ليرة وهو سعر قريب جداً من أسعار المقاهي القانونية”.
ولتجنب إزالتها أو مضايقات الجهات الرسمية فإن أصحاب المقاهي والبسطات يتسابقون لإعلان ولائهم السياسي لهذا المسؤول أو ذاك، وتتحول صورة الزعيم إلى ما يشبه الترخيص. وتتزايد الدعوات في الأوساط الشعبية لتنظيم هذه المقاهي من خلال عقود الـ BOT (بناء – تشغيل – نقل ملكية). ويقول علي عرجا، أستاذ مدرسة يرتاد المقاهي، أن كثير من الدول تقوم بتلزيم بناء الكورنيش للشركات وتعطيها الحق في إنشاء “الأكشاك” وتمنحها حق تأجيرها او ممارسة البيع المباشر من خلال التوظيف وتأمين فرص عمل للمواطنين. ومن يحتج لإزالتها بأنها إعتداء على الأملاك العمومية عليه أن يعمد لتنظيمها، بحسب العرجا، لأن الناس تحتاج للعيش فهي تشكل مورد رزق وحيداً لأصحابها، مقترحاً تأجيرها بصورة سنوية لتأمين دخل لصندوق البلدية ولتخصيص الموارد الناتجة عن تلك الأنشطة لتجميل المنطقة وإنمائها.
وبما أن المقاهي تنتشر على الشاطىء وخارج نطاق الطريق العام فإن شركة “لافاجيت” المكلفة بكنس وتنظيف الطرقات لا تتولى ازالة نفايات هذه المقاهي. من هنا يتحمل الزبائن وأصحاب البسطات هذه المهمة. وينتقد بعض مرتادي شاطىء الميناء تراكم النفايات هناك، وتحمل مايا نابلسي الناس مسؤولية رمي النفايات وعدم النظافة فهذا “سلوك غير حضاري ومسيء للمنطقة”.
هذه المقاهي “غير قانونية” بنظر البلدية، وهي موجودة بحكم الأمر الواقع، بحسب مصادر “المدن” في البلدية. وتشير المصادر إلى أن القانون يمنع إقامة أي إنشاءات على البحر وهذه الأراضي تابعة لوزارة الأشغال”، واصفة ما يجري بـ”الإغتصاب الذي يتم بغطاء سياسي يضحي بكل شيء من أجل حسابات الإنتخابات”.
وكان محافظ الشمال قد أصدر قراراً يسمح للبلدية – قبل إستقالتها – بإستثمار هذه الأماكن، لكنه لم ينفذ. وتلفت المصادر إلى عدم تقاضي البلدية “أي قرش”، لأن البسطات “غير قانونية، فكيف لنا أن نتقاضى منهم المال؟”. وتشير المصادر الى ان إستثمار هذه الأماكن يحتاج الى دراسة كاملة، وقد أنفق إتحاد البلديات الكثير من المال على إحدى الدراسات. وتعتبر المصادر ان “بقاء البسطات بطريقة غير شرعية، افضل من تشريع ما هو غير صحيح”، وكشفت عن “نية” لترك الحال على ما هي عليه “الى حين توفر الأموال لخطة إنمائية متكاملة”. وفي جميع الأحوال، فإن لم تتعرض هذه المقاهي للإزالة مجدداً بفعل قرار رسمي لمخالفتها القانون، فمن المحتمل ألا تبقى موجودة في حال إقرار المشاريع المتعلقة بالواجهة البحرية والمقدمة بحروفها الأولية إلى البلدية من أجل إنشاء مقاه ومنتجعات سياحية وأبراج، الأمر الذي يعارضه الكثير من أبناء المدينة، لأن ذلك سيحرم الدولة مما تبقى من أملاكها البحرية، بعد أن صادر النافذون شاطىء القلمون.