كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
تهديد «القوّات اللبنانية» و«التيّار الوطني الحر» بمقاطعة الجلسة التشريعية في حال عدم إدراج قانون الانتخاب في متنها، وإصرار القوى الأخرى على عَقدها بمعزل عن هذا القانون، طرَح إشكالية مزدوجة من طبيعة ماليّة وميثاقية.الصَرخة التي أطلقَتها وتطلِقها القوى الاقتصادية لجهة ضرورة عَقد جلسة تشريعية لإقرار القوانين المالية والمصرفية المطلوبة دولياً، وبصورة خاصة مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال وعمليات النقد العابرة للحدود من أجل تجنيب لبنان العزلة المالية الدولية، تشَكّل صرخة جدّية، لا تهويلية على الطريقة السياسية الابتزازية، ما يَعني ضرورة أخذِها في الاعتبار، خصوصاً أن لا أسباب قاهرة بالمفهوم الدولي، من قبِيل أوضاع حربية، تمنَح لبنان فترةَ سماح أو أسباباً تخفيفية لعدم إقرارها.
وفي المقابل الصَرخة التي يطلِقها العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع لناحية ضرورة تصحيح التمثيل المسيحي من خلال إقرار قانون للانتخابات يطوي حقبة الانقلاب على اتّفاق الطائف ويُعيد الاعتبار للوزن المسيحي التمثيلي، تشَكّل بدورها صرخةً جدّية يجب أخذُها في الاعتبار، لأنّه لا يجوز القفز فوق هواجس فئة لبنانية أساسية، وبالتالي ضرب الميثاق الوطني الذي يشكّل الحجر الأساس للبنيان اللبناني.
وفي ظلّ الصرختين الماليّة والمسيحية تبرز مجموعة من التساؤلات، أبرزُها الآتي:
أوّلاً، لماذا لا يُصار إلى إرضاء القوّتَيين المسيحيتيين الأبرز بإدراج قانون الانتخاب شكلاً وإسقاطِه مضموناً من خلال تطيير النصاب، وذلك تجنّباً لكسرِ الإرادة المسيحية، خصوصاً أنّ الرئيس برّي كان وعَد بإنجازه بعد التمديد النيابي؟
ولكنْ تَبرز في هذا المجال مخاوف جدّية لدى قوى سياسية عدّة من صفقةٍ ما تؤدّي إلى إقرار قانون للانتخابات يتطلّب النصفَ زائداً واحداً من عدد المجلس والنوّاب الحاضرين، بمعنى أنّ 33 نائباً بإمكانهم إقراره، وهذه من ثغرات اتّفاق الطائف التي تتطلّب تعديلاً، لأنّ قانوناً من هذا النوع يفترض أن يُقرّ بأكثرية الثلثين كونه يَفوق بأهمّيته الانتخابات الرئاسية أو يوازيها، حيث تتوقّف عليه عملية إنتاج كلّ السلطة بتوازناتها الطائفية والسياسية.
ثانياً، لماذا لا يُصار، كمخرج من الأزمة، إلى إطلاق تعهّد وطني ملزِم بإقرار قانون جديد للانتخابات من خلال ورشة عمل مفتوحة قبل نهاية العام الحالي؟ وهذا القانون يفترض أن يشكّل المساحة المشتركة بين كلّ القوى السياسية، وإلّا فلن يبصر النور.
ثالثاً، هل قانون الانتخاب يقرّ بالقوة أم بالتوافق؟ ولماذا تجاهُل أنّ القوى الإسلامية، على خلاف اعتباراتها، إمّا لا تريد انتخابات، وإمّا لا تريد قانوناً جديداً للانتخابات؟ ولماذا لا تكون البداية من خلال اتّفاق المسيحيين برعاية بكركي على قانون مسيحي مشترَك يُصار إلى تسويقه لدى القوى الإسلامية من أجل الخروج بتصَوّر واحد؟
وفي حال رفضَت القوى الإسلامية ترفض القوى المسيحية بدورها وضعَها أمام قانون أمر واقع، ولكنّها مدعوّة قبل ذلك إلى توحيد موقفها بشكل عَملي وموضوعي، وفي حال عدم التوافق على القانون الانتخابي التمثيلي، يُبَرَّر للمسيحيين عندها الذهاب إلى حدود الانفصال.
رابعاً، لماذا عدم الإقرار بواقع أنّ اللحظة الحاليّة لا تُنتج قانوناً للانتخاب؟ فالبيئة السياسية العاجزة عن انتخاب رئيس وتسيير أعمال مجلس الوزراء وإيجاد حلّ لأزمة النفايات، ستكون عاجزةً عن التوافق على قانون جديد، فضلاً عن أنّ الاتفاق على قانون الانتخاب يتطلّب «دوحة» من جديد بأقلّ تقدير، وتذكيراً فإنّ الرئيس برّي قال في الاجتماع الأخير لهيئة الحوار إنّ انتخاب رئيس الجمهورية يبقى أهون من الاتّفاق على قانون انتخاب.
خامساً، أين المصلحة في إعادة النقاش إلى مرحلة الأرثوذكسي التي أحيَت الانقسام المسيحي-الإسلامي؟ وأين المصلحة في تسعير الخلاف السياسي من خلال عَقد الجلسة من دون «القوات» و«التيار»، وإدخال البلاد في اصطفاف جديد على قاعدة طائفية؟
سادساً، أين المصلحة في تجاوُز الميثاقية والتصويت على قاعدة الأكثرية والأقلّية؟ وهل تجاوُزها اليوم سيتحوّل إلى قاعدة تنسحب على أيّ تصويت في المستقبل، أم ستشكّل استثناءً ضد المسيحيين فقط؟
سابعاً، لماذا لا يُصار إلى الحفاظ على الستاتيكو الحالي الذي من أولى شروطه تثبيت الاستقرار الأمني والمالي، والابتعاد قدر الإمكان عن المواضيع السياسية الخلافية ومن بينها قانون الانتخاب؟
ثامناً، لماذا لا يُصار إلى تحييد الخلاف السياسي عن القضايا المالية، خصوصاً أنّها تعني كلّ اللبنانيين؟ وإذا كان الاستقرار السياسي متعذّراً، فمِن الأولى الحفاظ على الاستقرار الأمني والمالي. ومن ثمّ على «القوات» و«التيار الحر» الإثبات من خلال مجموعة من الخبَراء الاقتصاديين أنّ ما يُطرح من مخاوف ماليّة ليس في محلّه، وأنّ ثمَّة مخارج من خارج الجلسة التشريعية، وأمّا في حال كانت المخارج غير مؤمَّنة، والمخاطر الاقتصادية جدّية، فيجب إعطاء الأولوية للاستقرار النقدي على أيّ اعتبار آخر.
تاسعاً، أين المصلحة في إعطاء الانطباع أنّ المسيحيين يعطّلون مؤسسات الدولة رئاسياً وحكومياً ونيابياً؟ فالعماد عون يعطِّل الانتخابات الرئاسية على قاعدة إمّا انتخابه أو لا انتخابات. ويعطِّل مجلسَ الوزراء تحت عنوان تعيين قائد جيش جديد وإلّا فلا جلسات للحكومة. والتقاطع المسيحي بين رفض التشريع قبل انتخاب رئيس، وبين اشتراط وضع قانونَي الانتخاب والجنسية، أدّى إلى تعطيل مجلس النواب.
واللافت في التعطيل أنّ «حزب الله» الذي يقف خلفَ عون في الرئاسة والحكومة، اختلفَ معه في التشريع من خلال الدعوة صراحةً إلى تفعيل عمل المؤسسات، وفي طليعتها المجلس النيابي.
وإذا كان لا يُعرَف بعد ما إذا كان الخلاف سيَبقى محصوراً أو تتّسع رقعته، فإنّ التباين قد يكون سببُه إمّا إعطاء الحزب الأولوية لبرّي على عون في التشريع، وإمّا تنسيق عون مع جعجع الذي بلغَ مراتب متقدّمة، ما أزعَج الحزب الذي أوصَل رسالته إلى عون عن طريق الانفصال عنه في التشريع.
عاشراً، إذا كان للعماد عون مصلحة بقلبِ الطاولة على الجميع لاصطدامِ طموحاته الشخصية بضوابط النظام السياسي، فأين المصلحة بمؤازرته للإطاحة بصمّامات أمان البلد مالياً، ما يؤدّي إلى تدهور الوضع أمنياً؟
فلكلّ هذه الاعتبارات وغيرها، المطلوب من كلّ القوى السياسية، وتحديداً المؤيّدة للتشريع، تجنّبُ سياسة التحدّي والاستفزاز والعنتريات التي قد تدفَع الفريق الرافض للتشريع إلى التمسّك بمواقفه، والبحثُ عن المخرج أو التسوية التي تجَنّب لبنان أزمةً من طبيعة جديدة، أكانت ماليّة أم ميثاقية، خصوصاً أنّ المطلوب تطويق الأزمات القائمة والعمل على معالجتها، وليس فتح أو افتعال أزمات جديدة.
فلا يجوز هزّ الوضع المسيحي المهزوز في كلّ المشرق العربي، ولا هزّ الوضع المالي الواقف على حافّة الأزمات المتفاقمة، وذكاءُ اللبنانيين هو في اجتراح التسويات على قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنَم».