Site icon IMLebanon

توفير الاستقرار عبر الازدهار الاقتصادي

photodune-1700821-turkey-s
ماجد منيمنة

في الوقت الذي كان رؤساء أحزاب المعارضة التركية يكيلون الإتهامات لحزب العدالة والتنمية، وينددون بممارسات وسياسات الرئيس رجب طيب أردوغان، لجأت قيادة حزب العدالة إلى مخاطبة الناخبين الأتراك باللغة الاقتصادية، إذ لم يكتفوا بالحديث عن المشاريع العملاقة التي تتعلق بتطلعات “تركيا الجديدة” في عام 2023 التي تتزامن مع ذكرى مرور مئة سنة على تأسيس الدولة، أو من خلال اطلاق مشروع مطار إسطنبول الجديد الذي سيكون ثالث مطار في العالم بضخامته وجهوزيته، ولكنهم اقتربوا أكثر من هموم الناس وأمورهم الحياتية واليومية وطرحوا سبل معالجتها ضمن برنامج ومنهج مدروس.

فلم يكن الأمر مقصوراً على القلق الأمني والسياسي في تركيا لأن الركود الاقتصادي الذي خيم على البلاد كان عاملاً آخر أسهم في تعزيز موقف حزب العدالة والتنمية الذي قاد حركة النهوض والتقدم الاقتصادي خلال السنوات العشر السابقة. ومن المؤشرات ذات الدلالة في هذا الصدد أن قيمة الليرة التركية زادت بنسبة 1.5٪ مباشرة فور ظهور النتائج الأولية التي دلت على فوز حزب العدالة والتنمية. فقد تحدث الوزير أوغلو في جولاته عن صرف رواتب لكل خريجي الجامعات بنحو ثلاثمائة دولار لكل طالب إلى أن يجد كل واحد منهم عملاً ثابتاً، كما أن من يريد أن يبدأ مشروعاً خاصاً فسوف تدعمه الحكومة بمبلغ 50 ألف ليرة بمثابة هبة تشجيعية أي ما يقارب 16 الف دولار أميركي، إضافة إلى قرض ميسر يعادل مئة ألف ليرة تركية، وإذا تم تعيين أي متخرج جامعي في القطاع الخاص فإن الدولة تتحمل راتبه طوال السنة الأولى لعمله في الشركة.

لذلك يعتبر الاقتصاد من أبرز المحركات الحيوية لترجمة السياسة التركية الجديدة، لا بل هو الركيزة الأهم باعتبار أن مقولة المال كمصدر للسلطة والنفوذ هي قاعدة عالمية كما هي قاعدة يطبقها الأفراد في حياتهم اليومية. وفي السياسة يقع الاقتصاد اليوم في قلبها، لا بل إن حروباً بذاتها تشن لغايات اقتصادية محض. والشخص المعني مباشرة بإدارة تحولات تركيا الخارجية هو نفسه وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو الذي يعتنق مقولة «توفير الاستقرار عبر الازدهار الاقتصادي» باعتبارها أحد الأسس الأهم في العلاقات الدولية، خصوصاً مع الاقتصاد التركي الذي يحتل المرتبة 11 عالمياً، وقد وصل دخل الفرد التركي إلى مستوى غير مسبوق قياساً في المنطقة الاقليمية.

هناك فرص كبيرة لتركيا التي تعود إلى إسلامها تدريجياً عبر حزب العدالة والتنمية مع تلاقي ظاهرة الصحوة الإسلامية في المنطقة كمحفز على تنمية الشق الاقتصادي الموصوف بعلامات إيجابية لمواقفها السياسية. ففي ظل دعوات المقاطعة التي كانت تصدر في بعض الدول العربية والإسلامية لمنتجات الشركات والدول التي تدعم إسرائيل أو تعزز الهيمنة الأميركية والغربية أو احتجاجاً على الإساءات الغربية المتكررة للإسلام ورموزه الروحية، كان هناك من يطرح سؤالا عن البدائل وعدم القدرة عن الاستغناء عن الغرب وصناعاته. لكن في ظل وجود بديل تركي لعدد كبير من الصناعات الأساسية وبمواصفات أوروبية عالية، يعرف الجميع أن أنقرة تتقيد بها كشرط لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي ففي بريطانيا مثلاً من أصل أربع ثلاجات منزلية تباع ثلاجة من صناعة تركية، وهذه البدائل بقدر ما تعطي فرصة للبضائع التركية على النفاذ إلى العالم الإسلامي والعربي ضمناً تجعل من دعوات المقاطعة لأي سلعة غربية لاحقا ذات قيمة ومصدر قلق لأصحاب الشركات نفسها التي تنافسها شركات تركية، فكيف إذا كانت مترافقة مع موقف سياسي مؤيد ومتضامن مع مواقف الداعين للمقاطعة احتجاجاً على الإرهاب الإسرائيلي والعدوانية الأميركية وغيرها من القضايا التي بدأت أنقرة تتخذ منها موقفاً واضحاً منحازاً إلى قضايا المنطقة. نقطة أخرى مهمة هي أن الظاهرة الإسلامية في تركيا أنتجت متطلبات لهذا السلوك الاسلامي من ألبسة وغيرها، وقد وجدت هذه مباشرة طريقها إلى أسواق إسلامية أخرى، في لبنان وسوريا والأردن والعراق وفلسطين وتونس وليبيا وغيرها، ممن تشهد أيضا نمواً في الصحوة الإسلامية تزيد الطلب على هذه المنتجات التي تجمع ما بين الجودة العالية والأناقة كصناعة النسيج والألبسة الشرعية الإسلامية، فضلاً عن أن المنتجات الغذائية التي تصنع في تركيا كما صناعة الجلود وما يتصل باهتمام المنتمين إلى الحركات الإسلامية بالقواعد الشرعية الإسلامية لجهة حلال هذه الأطعمة وهذه الجلود، تجعل للبديل التركي الأولوية على المنتجات التي يكون مصدرها دولاً غربية مثل هولندا والدانمارك وأوستراليا وغيرها.

هذه الأسباب تعزز من خلفية التوجه التركي نحو سوق عربية وإسلامية واعدة وكبيرة لا سيما أنها تتصف بالاستهلاك وتغزوها البضائع الأجنبية، وبالتالي يشكل المجال الاقتصادي الرافد الأبرز الذي يتغذى من سيل المواقف التركية المبتعدة عن إسرائيل والمقتربة من فلسطين، وهما عنوان الصراع السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي في الشرق الأوسط. وبمقدار ما كانت الدولة العبرية سعيدة في السابق لتوفير تركيا غطاء لها طيلة نصف القرن الماضي، فإنها الآن تتوجس خيفةً من التحولات التركية ومن سياسة اليد الممدودة التي تلاقيها أنقرة من الدول العربية والإسلامية المجاورة لها.
كما تتمحور الخطط الاقتصادية حول إقامة تكتل إيراني- تركي يقوم على إيجاد ممر بري بينهما يُستخدَم في تصدير النفط والغاز الطبيعي الإيرانيين عبر تركيا إلى البلدان الأوروبية وهذا ما يزعج روسيا وكان أحد أسباب تدخلها في الحرب السورية لقطع الطريق على ايران وحلفائها. وإذا اعتمد هذا الممر البري فسيكون ممكناً بناء محطات لتكرير النفط بحيث تتحرر إيران من استيراد البنزين، كما أنه سيتيح للجمهورية الإسلامية استخدام ميناء «تربزون» التركي على البحر الأسود كبديل عن دبي كمركز أساسي للاستيراد والتصدير التجاري.
وبحسب التقارير الاقتصادية فإن الخطة الإيرانية تقود لإشراك تركيا في التعاون القائم بين إيران وسوريا، وهو تعاون مرشح مستقبلاً لأن يضم كلاً من لبنان والعراق وسوريا بما يقود إلى خلق خريطة جديدة للشرق الأوسط تقود إيران فيها حلفاً إقليمياً قادراً على مقاومة الحلف الخصم الذي تدعمه الولايات المتحدة. ومن الواضح أن التنسيق التركي- الإيراني فيما يتعلق بتركيبة المشهد العراقي السياسي حالياً، ومنح حصة لتركيا في الصيغة الجديدة يعد عاملاً مساعداً في الدفع نحو الرؤية الإيرانية للتعاون الاستراتيجي مع تركيا، التي ترى في جارها العراقي بوابة دخول إلى قضايا المنطقة يعززه الدفع الاقتصادي التركي- العراقي الذي يستمد قوته من روافد عدة، أبرزها الرخاء الاقتصادي الذي تشهده كردستان، الشريك التجاري البري الأول لتركيا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الملف النفطي، المتمثل بخط نفط جيهان كركوك أو غيره في المنطقة الاستراتيجية، الذي يوفّر لتركيا موارد دخل إضافية، أو بالنسبة إلى التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة، الذي تجاوز 12 مليار دولار أميركي في 2014.

كما أن هناك مجالا حيوياً آخر يتعلق بالقوقاز وتحديداً نطاق أرمينيا، أذربيجان وجورجيا، التي تتشارك فيها أنقرة وطهران وموسكو النفوذ، بحيث تتوسع دائرة التعاون مع أطراف ذات شأن عالمي كما هي روسيا اليوم، أو مع الصين لما توفره من ظهير دولي، وهو ما يشكل قلقاً لدى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل إزاء مسار تبلور حلف عسكري جديد، بين كل من إيران وتركيا والصين، الذي انعكس عبر مناورات جوية مشتركة شاركت فيها طائرات تركية وصينية، بعدما كان سلاح الجو الإسرائيلي الشريك الأساسي لنظيره التركي في المناورات الجوية الدولية التي توقفت في أعقاب الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2008. وبموازاة القلق مما يسميه الإسرائيليون التعاون العسكري الصناعي الصيني- الإيراني والصيني – التركي فإن هناك تعاوناً ثلاثياً يتعلق بمشاركة تركيا والصين في مشروع مدّ أنابيب نفط من إيران الى عمق آسيا.
أما سوريا المنخرطة في تعاون استراتيجي مع إيران ومحور واحد في المقاومة فإنها باتت اليوم تشكل بوابة تركيا إلى العالم العربي، ومنها تطل على لبنان الذي بات يحتل موقعاً مهماً لدى صناع السياسة التركية التي ترجمت بأدوار عدة، مثل المشاركة الفاعلة للأتراك في قوات «اليونيفيل» بعد العدوان الإسرائيلي في تموز 2006، بالإضافة إلى دور أنقرة في ولادة إتفاق الدوحة في أيار 2008، وما يحكى اليوم عن مساهمة وزير الخارجية داوود أوغلو في البحث عن حلّ لأزمة المخطوفين في جرود عرسال وجهود رئيسية لتسوية الانتخابات الرئاسية في لبنان.

لكن نقطة الإرتكاز المقبلة ستكون ولادة «منطقة التجارة الحرّة» التي ستضم كلاً من تركيا وإيران ولبنان وسوريا والأردن والعراق، التي توصف بأنها ستكون النسخة الجديدة للشرق الأوسطية الاقتصادية وستؤدي تدريجياً إلى إقامة منطقة ذات تعاون وثيق ومفتوح على صعد تنقّل الأفراد والطاقة والتجارة والسياحة والمواصلات.
إذاً المشهد الاقتصادي التركي –الإيراني- الشرق الأوسطي آخذ بالتبلور ليحقق فوائد لكل أضلاعه، وان كانت أنقرة تطمح بحسب سياستها الخارجية إلى التحوّل إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية بما يزيد من جاذبية تركيا للغرب عموماً ولأوروبا خصوصاً، ويضمن لها عضوية الاتحاد برأس مرفوع. ولأن فترة البرلمان الحالية هي أربع سنوات، فليس مستبعداً أن تتجدد محاولات أنقرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، خاصةً أن ثمة قرائن موحية بذلك، كانت منها الزيارة التي قامت بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والتقاؤها الرئيس أردوغان في ذروة المعركة الانتخابية، إضافة إلى إشارات التشجيع التي ظهرت من بعض الدول الأوروبية الأخرى وفي مقدمتها فرنسا.

و في الشق الاقتصادي الداخلي سيصبح للحكومة التركية أكثر قدرة على تخفيض فوائد القروض التي ارتفعت تحت بند المخاطرة في ظل حالة الغموض السياسي، ما سيمنحها فرصة مثالية لتشغيل الأيدي العاملة وإدارة محركات رأس المال بطريقة تعزز النمو الاقتصادي وتخفض الدين العام. كم أن فوز حزب العدالة سيخفض حالة الجدل بين الأحزاب في مختلف الملفات العالقة، الأمر الذي سيزيد من شعور المستثمرين بالأمان لضخ مزيد من الأموال وتفعيل الاستثمارات في تركيا خاصةً في قطاعي العقارات والخدمات. أما على الصعيد الخارجي، فإن الأغلبية الداعمة لحزب العدالة والتنمية ستمنحه أوراق قوة أكبر في التعامل مع ملفات حساسة كملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ومعالجة أزمة اللاجئين السوريين، مما سيزيد من الشعور العام باستقرار البلد وصلاحية بيئته للاستثمار وجذب مزيد من الأموال الأجنبية لتعزيز الاستقرار المالي والدفع بالنمو الاقتصادي إلى نسب عالية.