قصة الصاغة ومعلمي المجوهرات والذهب في لبنان، هي نفسها القصة التي يخبرها كل العمّال الحرفيين في لبنان. هؤلاء الذين يُصرف النظر عنهم منذ أيام الحرب الأهلية وحتّى اليوم، بحيث تتساقط الصناعات الحرفية رويداً رويداً، على وقع التقاعس الرسمي من جهة وعدم حماسة الأجيال الجديدة لتحمّل عبء هذا الإرث والحفاظ عليه، من جهة اخرى.
لم تكن صناعة المجوهرات وتجارتها في لبنان قبل الحرب العالمية الأولى بالشهرة والجودة والتقنية التي تشتهر بها اليوم، إذ كانت المنطقة تعتمد على معلّمين قلائل وتفتقد إلى التقنية والمعرفة في عالم المجوهرات الشاسع، وكان معظم النشاط يتركّز في حلب ودمشق، وكانت هذه الصناعة تقتصر على الذهب.
يخبر نقيب «معلمي الذهب والمجوهرات» بوغوس كوريان: «مع ويلات الحرب العالمية الأولى، أتى زمن الهجرة وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط لا سيما لبنان وسوريا وفود أعداد كبيرة من الأرمن الذين يعتبرون من أقدم الشعوب في صناعة المجوهرات. وبذلك بدأ تطوير صناعة الذهب والألماس التي نقل الأرمن تقنياتها وعلّموها لشعوب المنطقة وبذلك بدأ التطوّر تدريجياً». يضيف كوريان لـ «السفير»: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت صناعة المجوهرات تزدهر أي في الخمسينيات من القرن الماضي، ووصلت إلى القمة في أوائل السبعينيات، إن كان على صعيد الصناعة أو على صعيد التجارة. إذ كانت السوق اللبنانية محط أنظار الدول الأفريقية والعرب لا سيما الخليجيين الذين كانوا يشترون مبتغاهم، ويستوردون كميات كبيرة من المجوهرات اللبنانية التي امتازت دوماً بذوقها الرفيع وجودتها».
وكما حصل في الكثير من المهن والحرف، كانت الحرب الأهلية طعنة في القلب، لم يكن الشفاء منها سهلاً. فالطُّعم كان الطائفية. انقسمت السوق المركزية للذهب والمجوهرات التي كانت في ساحة البرج في بيروت وتفكّكت، وعاد التجار والصنّاع كلٌ إلى منطقته، ملتفاً حول طائفته، كما كانت الحرب تبغي. وبذلك ظهرت أسواق جديدة للذهب في مختلف المناطق. لكنّ الظروف الصعبة لم تمنع القطاع من الاستمرار، بحيث يفيد كوريان بأنّ «الطلب على الذهب والمجوهرات اللبنانية خلال الحرب كان عالياً، وكانت الأسواق متعطّشة للصناعة اللبنانية، فكان التصدير عن طريق قبرص ليتم التوزيع الى الدول الخليجية والأوروبية». ثمّ يستدرك بالقول: «لكنّ المهنة بدأت تتأثر سلباً وتتفكك من الداخل إثر التصادم الذي حدث بين الرأسماليين والحرفيين، بحيث اقتحم المهنة أشخاصٌ دخيلون، لا علاقة لهم بهذه الصناعة التي هي فن بحدّ ذاته ولا يمكن التعامل معها كسلعة مادية. هنا رأينا المهنة ترجع الى الوراء». ويشير إلى أنّ «هذا الوضع دفع بالعديد من المعلّمين الكبار إلى الاعتكاف بعدما تعرّضوا للاهانة، كما اختار آخرون تغيير المهنة التي أفنوا عمرهم فيها». ويضيف كوريان: «اليوم الفوضى تسود في كثيرٍ من الأحيان، وبات كثيرون يتعاملون مع المهنة بشكلٍ تجاريّ ماديّ، ما جعل معلم المجوهرات مظلوماً ولا يتمتّع بحقوقه المادية والمعنوية كما يجب، إذ يسيطر أصحاب الأموال على صناعة المجوهرات ويسوقونها إلى جهتهم».
ذاكرة الستينيات
الحرقة ذاتها تلمع في عيني نقيب الصاغة والجوهرجية أنطوان المغنّي حين يخبر عن أيام الحرب وما فعلته بهذه الصناعة، إلاّ أنه يستدرك بالقول: «لكنّ أيام الحرب برغم الظروف والصعوبات كانت أفضل من السنوات الأربع الأخيرة التي مرّت علينا وعلى القطاعات الاقتصادية كافّة، فالحركة إلى تراجعٍ مستمر، والسياحة الخليجية التي نعتمد عليها متوقفة إلى أجلٍ غير مسمّى». ويضيف لـ «السفير»: «السوق المحلية متراجعة 90 في المئة، والاقفالات مستمرّة منذ 4 سنوات لا سيما في سوليدير».
ويعود المغنّي بالذاكرة ويقول: «أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات كانت أحلى أيام، أكبر نجوم العالم كانوا يزورون بيروت، يجلسون في مقاهيها ويشترون من أسواقها التي كان يشهد بها بالجودة والتميّز، وكانت المجوهرات اللبنانية قادرة على منافسة الصناعات الأجنبية في الأسواق العالمية. بعد ذلك كانت الحرب، ثمّ هدأت الأمور في التسعينيات وعاد التراجع في السنوات الأخيرة بسبب الحرب في بلدان عربية واعتكاف الخليجيين عن زيارة لبنان، والتجار يدفعون الثمن».
هيمنة العائلات والصفقات المشبوهة
لا يُخفى على أحد أنّ سوق الذهب اللبناني يتّصف بطابعٍ عائليّ، إذ باتت مهنة صناعة وتجارة المجوهرات بمثابة الإرث أباً عن جد، ومن هذه العائلات طباع ومعوض وبونجيا ومزنّر. إلاّ أنّ مصانع المجوهرات الكبيرة تعدّ على أصابع اليد، فيما تنتشر المصانع أو المشاغل الصغيرة في المناطق المختلفة.
والواقع أنه برغم المراحل والصعوبات المتقطّعة التي مرّ بها القطاع، إلا أنّ لبنان يحتل المركز الأول في صناعة المجوهرات في الشرق الأوسط مع حجم أعمال يناهز 4.5 مليارات دولار في السنة.
واستحوذت المجوهرات على نحو 35 في المئة من الصادرات اللبنانية في العام 2011، لتبلغ نحو 1.5 مليار دولار سنويا، وذلك برغم الارتفاع الكبير الذي شهدته اسعار الذهب قبل أن تعود إلى الانخفاض في الآونة الأخيرة.. وإذ تشير بعض المعلومات إلى أن حجم هذه السوق يبلغ حوالي 4.5 مليارات دولار سنويا، اي 16 في المئة من الناتج القومي الاجمالي، إلاّ أنّ هناك معلومات أخرى تفيد بأنّ صفقات مشبوهة كثيرة تحدث عبر لبنان لا سيما في تجارة الألماس، ما يجعل قسماً كبيراً من مبيعات المجوهرات اللبنانية غير مصرّح عنه برغم عدم خضوعه لضريبة التصدير.
ماركات عالمية
لا تخلُ السوق اللبنانية من المجوهرات المستوردة والتي تحمل ماركات عالمية مهمّة، إلاّ أنّ كوريان ومغنّي يتّفقان على انها «لا تشكل منافسة كبيرة للصناعة اللبنانية التي تقدم نوعية مماثلة وبأسعار افضل واكثر جاذبية».
تفيد المعلومات بأن 8000 شخص يعملون في قطاع المجوهرات بينهم خبراء وصناعيون وتجار. ويستهلك لبنان حوالي 10 في المئة من الانتاج السنوي في حين يصدّر 90 في المئة منه الى الخارج.
عن مستقبل المهنة، يكاد المغني وكوريان يردّدان العبارات ذاتها، مؤكّدين أن «لا مؤشرات لمستقبل باهر ينتظر هذه المهنة، فالأجيال الجديدة غير متحمّسة، وقسم كبير من الشباب يبحثون عن سبلٍ للهجرة إلى بلادٍ أخرى حيث يضمنون طموحهم، فيما المهن الحرفية تحتاج إلى الصبر وتتعرّض للنكسات والازمات وليس من يحميها».