كتب ايلي الفرزلي في صحيفة “السفير”:
تحولت الجلسة التشريعية، التي يفترض أن تعقد بعد غد الخميس، إلى أزمة حقيقية تكاد تطيح ما تبقى من الهيكل اللبناني الهشّ. ذلك ليس مفاجئاً. أزمة النفايات هزّت أسس النظام أيضاً.. ولا تزال. الفراغ في رئاسة الجمهورية خلخلها أيضاً، وكذلك فعل تمديدا المجلس النيابي و»الكوما» التي تعيش بها الحكومة.
الكل متوجس من صراع الديوك المستشري حالياً. والكل يعرف خطورة هذا الصراع المرتبط بـ «بدعة الميثاقية»، التي صارت دستوراً، ينظم العلاقات بين الطوائف، بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005.
تجربة «الحكومة البتراء» لا تزال حاضرة. مصدر محايد يعود إليها ليشبّه أي جلسة يعقدها مجلس النواب من دون المكونات المسيحية الرئيسية، بمثابة رفع القبعة لنهج الرئيس فؤاد السنيورة. يقرّ المصدر بالفارق بين عقد الجلسة الحكومية آنذاك في غياب المكون الشيعي وبين جلسة تشريعية تعقد بحضور بعض الوزراء المسيحيين. لكنه مع ذلك، يصر أن هذه تشبه تلك إلى حد بعيد. فإذا كان الرئيس نبيه بري قد دأب في ذلك الحين على تكرار دعوة السنيورة إلى توزير أي وزير شيعي من «14 آذار» لإعطاء الحكومة شرعيتها الميثاقية، يسأل المصدر: هل حقاً كان يمكن لممثلي الشيعة الأساسييين، أي «حزب الله» و «حركة أمل»، أن يقبلا بتمثيل الطائفة من قبل النائب غازي يوسف على سبيل المثال؟
عندما وصل النائب هادي حبيش إلى اجتماع لجنة الإدارة والعدل أمس، علا الضحك. زملاؤه في اللجنة لم يسبق أن رأوه ربما منذ عام. رحّبوا به بوصفه «ممثل المسيحيين». هو الذي يظهر إعلامياً بشكل مكثّف منذ أيام ليعلن أن التمثيل المسيحي لا يتوقف على الأحزاب الثلاثة الرئيسية.
تيار «المستقبل» يعرف أكثر من غيره حساسية التمثيل الطائفي. ظل يعارض حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بشراسة لأنه يعتقد أن التمثيل السني معقود له، وهو وحده الذي يحق له أن يختار.
الرئيس بري ثبّت ذلك أيضاً، بعدما سبق ورفض عقد جلسة نيابية قاطعها «المستقبل»، المعارض للتشريع في ظل حكومة تصريف أعمال، بالرغم من وجود نواب سنّة مشاركين في الجلسة. وهو رفض أيضاً السير في الانتخابات، التي أعلن الرئيس سعد الحريري عن مقاطعتها، لأنه يرفض أن تجري في غياب أي مكون.
ضرورات متباعدة
من الواضح أن الارتباك هو سيد الموقف. كل اللقاءات والاجتماعات لم تجد نقطة تلاق بين المختلفين. خرج ممثلا «التيار» و «القوات» النائبان ابراهيم كنعان وجوج عدوان من عين التينة كما دخلا، فظلا يحذران من تداعيات تخطّي الميثاقية على العيش المشترك وعلى الكيان اللبناني. وكذلك، عاد رئيس «القوات» سمير جعجع وعقد مؤتمره الصحافي، أمس، بعدما سبق وأجّله إفساحاً في المجال أمام مساعي التوافق، محذراً من إعادة تشغيل العداد الذي أوقفه الرئيس رفيق الحريري. وتابع النائب سامي الجميل التأكيد على أن أي تشريع قبل انتخاب رئيس الجمهورية هو مخالفة صريحة للدستور. فيما كانت «كتلة التنمية والتحرير»، في المقلب الآخر، تؤكد على أهمية المشاركة في الجلسة «حفظاً لاستقرار البلد وحمايته من المخاطر المحدقة به» إذا لم تقر القوانين المالية.
في الأساس لا يزال الأمر برمّته غير واضح. ما الذي يحصل فعلاً؟ لماذا لم يكتف «التيار» بإنجاز مطلبين تاريخيين له هما قانون استعادة الجنسية وقانون تعديل قانون الضريبة على القيمة المضافة، المتعلق بتوزيع عائدات البلديات؟ ولماذا كانت أوساط بري واثقة أن عون سيؤمن ميثاقية الجلسة؟ ولماذا يؤكد «المستقبل» أنه سيشارك في الجلسة، بالرغم من أن القواتيين سبق وتلقوا وعوداً من حليفهم أنه لن يحضر أي جلسة تتغيب عنها المكونات المسيحية الثلاثة؟ ولماذا لم يضع بري قانون الانتخاب على جدول الأعمال حتى لو شكلياً؟ ولماذا ظهرت التحذيرات المتعلقة بضرورة إقرار القوانين المالية بالتزامن مع التحضير لعقد الجلسة، التي كانت القروض هي أقصى ضروراتها؟
الأسئلة لا تنتهي، لكن المقاطعين المفترضين يزيدون عليها: لماذا الإصرار على التهويل من تداعيات عدم إقرار القوانين المالية أو قوانين قبول القروض، بالرغم من أن الجميع، ومن كل الاتجاهات السياسية، يدرك أن لا شيء يستدعي كل هذا القلق؟ ولماذا الإصرار على عدم طرح قانون الانتخاب؟ وبعبارة أخرى، إذا كان الرئيس بري يخشى فعلاً من تمرير قانون انتخابي على قياس «14 آذار»، فلماذا لا تؤجل الجلسة للبدء بجولة جدية من المشاورات للاتفاق على قانون انتخاب توافقي، يمكن إنضاجه على طاولة الحوار؟ وهل سيقع لبنان في المحظور إذا لم تعقد الجلسة بعد غد أم أنه يمكن تأجيلها لشهر وأكثر من دون تبعات سلبية؟
يبدي مصدر نيابي قلقه من مستوى التوتر الذي وصله الخطاب السياسي، لكنه يتذكر أن كل القوى السياسية أقرّت أنه أثناء الوصاية السورية منذ الطائف وحتى العام 2005 كان التمثيل المسيحي منقوصاً، ولم يكن المسيحيون مشاركون فعلياً في الحكم، بالرغم من أن المناصفة كانت محترمة في المجلس النيابي ومجلس الوزراء. وعليه، يسأل المصدر «ما هي الرسالة التي نريد إيصالها إلى المسيحيين؟ وهل المطلوب تكريس منطق الوصاية مجدداً، وهل حرصنا على مشاركتهم في الحكم يقف عند عتبة الشعارات؟».
الرئاسة من المصرف؟
من يريد «الحرتقة» في السياسة. يعيد طرح الأسئلة من الصفر. يسأل عن دور مصرف لبنان في كل ما يجري، وعن القوانين التي تثبت مرجعيته المطلقة في القضايا والقرارات المالية، ثم يربطه بالانتخابات الرئاسية. لكن بعيداً عن «الحرتقة»، وفي خضم الانقسام الحاد الذي أنتجته الجلسة، صارت الأولوية للبحث عن مخرج. من هو «الحكيم» الذي سينتج هذا المخرج الذي لا يكسر بري ولا ينصر «التيار» و»القوات». الحل قد يكون في يد «المستقبل»، يقول أحد المتابعين، فتغيب الكتلة سيعني عملياً صعوبة تأمين نصاب النصف زائداً واحداً، بما يعطي بري مبرراً دستورياً لعدم عقدها. لكن نائباً آخر يرى أن الحل يمكن أن يأتي على شكل اقتراح قانون معجّل مكرّر يقدم «التيار» و «القوات» فيه نظرتهم لقانون الانتخاب، فيعمد المجلس إلى طرح صيغة العجلة على التصويت. الاحتمال الثالث، يتعلق بإمكانية عقد الجلسة وإقرار عدد قليل من القوانين قبل رفعها.. الاحتمالات لا تنتهي، لكن أبرزها لا يزال عدم عقد الجلسة التي قال «مفاوضا بري» له إنها ستشكل سابقة خطيرة إن عقدت في غياب المكوّنات المسيحية.
لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد من التوتر ومن المستفيد؟ المسألة تبدو معقدة ومبهمة. وبين «ديكتاتورية الأقلية» التي يسعى «القوات» و»التيار» لتكريسها، بحسب نائب في «كتلة التنمية»، وبين «الفيتو المسيحي» الذي يسعى الطرفان لتكريسه أسوة بالفيتوات الطائفية الأخرى، ما تزال الأزمة تراوح مكانها. حتى اليوم لا حل فعلي يمكن الركون إليه. علماً أن التناقض ليس في التوصيف فحسب. مصادر بري تقول إن «التيار» طالب بوضع بند قانون الانتخاب شكلياً في أسفل جدول الأعمال. لكن «التيار» يجزم أن الخلاف الرئيسي يتعلق برفضه التعامل شكلياً مع القانون، وهو طالب بري، في اجتماع أمس، بالتزام صريح ببحث قانون الانتخاب في الجلسة، ثم في جلسات لاحقة تخصص له، لكن رئيس المجلس رفض تقديم أي التزام.